-لا يسقط حق امرئ وإن قدم-
مفهوم التقادم
التقادم في اللغة هو مرور الزمان على الشيء مع ثبوته او ثبوت صفة معينة فيه فنقول مثلا قدمت المدينة -بفتح القاف و ضم الدال - أو تقادم عهده اي مر عليه زمان طويل
والتقادم مصطلح هام في القانون تبعا لأن معظم الإجراءات القانونية مقيدة بحدود زمنية يسقط الحق بالقيام بالإجراء أو المطالبة به بعد تعدي هذا الحد الزمني و هذا التعدي هو ما يصطلح عليه في القانون - بالتقادم - .
وعليه فأن التقادم في القانون : هو مرور مدة محددة من الزمن على حق معين يسقط او يرفض سماع الدعوى بشأنه او يكتسب هذا الحق بعد انتهاء هذه المدة , و هذا التعريف عام شامل للتطبيقات المختلفة للتقادم في القوانين المعاصرة بغض النظر عن الاختلاف الفقهي في صحة أي منها و الذي سنبينه لاحقا .
كما أن التقادم - ينقطع - ويعني انقطاع التقادم : تجدد مدة التقادم بسبب مطالبة الدائن لمدينه بالحق محل التقادم قبل أن تكتمل مدته
وللتوضيح ان استحق لدائن حقه عند مدينه فمرت عشر سنوات على الاستحقاق دون مطالبة وكانت مدة التقادم خمسة عشر سنة فطالبه في السنة العاشرة مطالبة قضائية , تسقط العشر سنوات السابقة وتبدأ خمسة عشر سنة جديدة من تاريخ المطالبة القضائية.
كما أن مدد التقادم تتوقف ويعني توقف التقادم : التوقف عن حساب مدة التقادم فترة زمنية معينة - أثناء التقادم - لوجود أسباب خارجية تمنع من له حق قطع التقادم من قطعه عن طريق المطالبة القضائية , ويستمر حساب مدة التقادم بعد زوال المانع مباشرة .
مدد التقادم و أنواعه
التقادم إما أن يكون مكسبا لحق او مسقطا لحق او مانعا لسماع الدعوى
فالتقادم المكسب : هو المدة الزمنية التي يكتسب من خلالها الشخص حقا عينيا مثل اكتساب الأشخاص لحقوق ملكية الأراضي التي يضعون أيديهم عليها مدة التقادم المنصوص عليها في القانون مع مراعاة شروط وضع اليد .
و التقادم المسقط : هو المدة الزمنية التي يسقط بعد مرورها الحقوق التي لا يستعملها أصحابها مثل سقوط حق ألانتفاع لعدم استعماله مدة التقادم .
و التقادم المانع من سماع الدعوى : هو نظام من التقادم لا يعترف بسقوط الحقوق بمرور الزمن لكنه يمتنع عن اعانة أصحابها من المطالبة بها بعد مرور تلك المدة وهو نظام مختلف عن التقادم العادي ولا يمكن أن يتبنى القانون في موضوع معين كل من التقادم المسقط و المانع من سماع الدعوى بل يجب ان يختار أحدهما وهو ما سنفصله في تطبيق القانون العراقي للتقادم في هذا البحث .
أما بالنسبة لمدد التقادم فبشكل عام هناك ثلاث أنواع :
القاعدة العامة للتقادم : وهو ثلاثين سنة في القانون الفرنسي و خمسة عشر سنة في القانون العراقي و المصري
التقادم الخمسي : و هو التقادم بمرور خمس سنوات في بعض الحقوق الخاصة من امثلتها في القانون العراقي حقوق الاجرة و الفوائد و الرواتب وكل حق دوري و متجدد ٤٣١ مدني
التقادم السنوي أو الحولي : وهو التقادم بمرور سنة وغالبا ما ينصب على حقوق العمال و مقدمي الخدمات اليومية كالفنادق و الخدم و الصناع وغيرهم من الاجراء اليوميين , ذلك لصغر تلك الحقوق غالبا وأنها في الغالب لا تترك ليمر عليها الزمن ومع ذلك فأن تم تسجيل تلك الحقوق في وثيقة معاملة او عقد بسيط مكتوب مهما كان صغر حجمها فتسري عليها القاعدة العامة في التقادم وليس التقادم السنوي
الاستثناءات : في بعض الأحيان ينص القانون على مدد خاصة لا تندرج تحت المدد أعلاه يسقط فيها الحق او الحق بالمطالبة به وهذه المدد قد تطول أو تقصر على سبيل المثال لا يسقط حق الملكية بالتقادم أبدا في القانون العراقي كما ان مدة تقادم حقوق العمال و المحامين هي ثلاث سنوات في القانون العراقي ايضا , والاستثناءات موجودة في القانونين المصري و الفرنسي.
التقادم و السقوط
بينا اعلاه ان من انواع التقادم المسقط للحق , لكن التقادم المسقط يختلف عن مدة السقوط.
مدة السقوط : هي فترة زمنية قصيرة غالبا تعين من خلالها الحدود الزمنية لاستعمال رخصة قانونية , وتسمى ايضا المدد المقطوعة او المحددة , من أمثلتها المدد التي تضعها القوانين الاجرائية لرفع دعوى او الطعن بحكم وما الى ذلك مثل مدة اجازة العقد الموقوف المحددة بثلاث اشهر في المادة ١٣٦ ,
ومدد السقوط لا تطبق عليها أحكام التقادم فالغرض منها ليس حماية استقرار المعاملات إنما هي حدود زمنية لاتخاذ إجراء قانوني , وعليه لا تنقطع هذه المدد ولا تتوقف لأسباب خارجية , وغالبا ما تكون أوضاع من يمنحون رخصة هذا الإجراء لا تحتمل تأجيله فيعتبر عدم القيام به تنازلا عن الرخصة .
الحكمة من التقادم
الحكمة من التقادم هي الحفاظ على استقرار المعاملات بشكل اساسي و الحث على المطالبة بالحق باسرع وقت وحماية الحقوق المكتسبة بحسن نية بشكل ثانوي وشرح ذلك يقتضي تفصيل بعض المفاهيم
اولا : ان القانون المدني كأي قسم من أقسام القانون يقوم على أسس معينة محددة تراعى عن تشريع اي قاعدة قانونية فيه وهذه الاسس تختلف كليا او جزئيا من قانون دولة الى اخرى تبعا لاختلاف نظرة المشرعين أو القائمين على صياغة القانون المدني الى مواضيعه , على سبيل المثال من هذه الأسس في القانون الفرنسي و المصري والعراقي الحفاظ على استقرار المعاملات و مبادئ العدالة او العدالة بشكل مطلق و حسن النية و شخصية الملتزمين , وهذا التشابه نتيجة تأثر القوانين الثلاثة بالنظام القانوني اللاتيني
ولكن يختلف القانون العراقي عن الفرنسي و المصري في أنه لا ينظر ذات النظرة الشخصية في الالتزام وما يترتب على ذلك من آثار .
ثانيا : مخالصة الوفاء : مخالصة الوفاء هي الوثيقة التي يؤكد من خلالها اطراف الالتزام ان طرفا او اكثر منهم قد اوفى بالتزامه تجاه الاخر و من أمثلتها في الحياة اليومية وصولات الخدمات و السلع .
ثالثا : استقرار المعاملات : و يقصد به أنشاء وانقضاء المعاملات المدنية بين العامة دون أن يطرأ عليها تغيير من ظروف خارجية دون ارادة الاطراف أو بإرادة أحدهما دون الآخر في التعاملات الملزمة لجانبين , وهذا الاستقرار يتطلب الحفاظ عليه تبني بعض المفاهيم مثل اشتراط المصلحة عند رفع الدعوى و تبني مبدأ حجية الحكم المقضي به و الحث على الاحتفاظ بمخالصة الوفاء طيلة مدة التقادم ومدة التقادم بذاتها .
واستقرار المعاملات له أهمية كبيرة في التنظيم القانوني فالحفاظ عليه يؤدي إلى حماية الحقوق من المساس القانوني الغير مبرر و تقليل النزاعات القانونية أمام القضاء بشكل عام وحماية الحقوق التي اكتسبها الأشخاص حسني النية في الأحوال التي يكون فيها الحق محل التقادم قد تم التصرف فيه لأكثر من مرة , وكل ذلك يقتضي تبني مفهوم التقادم فليس من المعقول السماح لشخص أن يطالب غريبا عنه بحق له اهمله لاكثر من ١٥ عاما - الحد الادنى من القاعدة العامة في مدد التقادم - أو أن ينقض تصرفا لمدينه أو دائنه بعد مدة طويلة من معرفته بحقه في النقض أو ان يطلب من الورثة الاحتفاظ بجميع مخالصات معاملات اجدادهم مهما طال تاريخها كي لا يطالبهم أي من أحفاد دائنيهم حقوقا قد حصلو عليه فعلا , وهكذا نتبين اهمية مفهوم استقرار المعاملات وضرورة تبني مفهوم التقادم للحفاظ عليه .
نبذة تاريخية
إن نظام التقادم تطور في الفقه الإسلامي بشكل منفرد عن القانون الفرنسي بالرغم من نشوئهما في أوقات متقاربة
في العالم الإسلامي الذي كان يتبع في معاملاته المدنية الفقهاء المسلمين فإن القاعدة العامة لدى جميع المذاهب و الفرق هي - لا يسقط حق امرئ وإن قدم - وفي قول اخر - لا يسقط حق امرئ مسلم وإن قدم - ولأن ألاولى على المسلم أن لا يفرق في معاملاته بين الناس على حسب أديانهم , فنفضل الأول , وعلى كل حال فأن التقادم لم يكن مرغوبا.
لكن مع تطور التجارة والانفتاح على العالم ما بعد القرن الحادي عشر أصبحت المشاكل التي بينها اعلاه اكثر تكرار , فقرر فقهاء من المذهبين المالكي و الحنفي عدم سماع الدعوى بعد مرور مدة التقادم أي أن الحق لا يسقط بمرور الزمن إنما لا يسمع القضاة الدعوى بالحق ضد منكر هذا الحق بمرور مدة التقادم و التي حددها بعضهم بثلاثين سنة واخرون ثلاثة وثلاثين وآخرون بستة وثلاثين كما انهم لم يتبنوا فكرة التقادم المكسب لحق,
وأخيرا في ظل الحكم العثماني قرر السلطان سليم العثماني جعل المدة ١٥ عاما وهو ما تبنته مجلة الأحكام العدلية عام ١٦٦٠م التي تمثل القانون المدني الأراضي التي تسيطر عليها الدولة العثمانية وهو ما تبناه القانونين العراقي و المصري .
أما التقادم في القانون الفرنسي فقد ظهر في تقنين نابليون عام ١٨٠٤م وكانت مدته ثلاثين سنة ومازالت كذلك و يرى عدد من الباحثين أن التقادم في هذا القانون كان نتيجة تأثره بفكرة التقادم التي تبناها المذهب المالكي ورغم عدم قدرتنا على تأكيد ذلك إلا أن تأكيد ظهور التقادم في الفقه الإسلامي قبل الغربي بعدة قرون و انتشار المذهب المالكي في دول المغرب العربي والتي كانت فرنسا تحارب بشدة للحفاظ على سيطرتها عليها وتشابه مدة التقادم مع المدة التي وضعها الفقهاء يسند هذه الفكرة زمنيا وجغرافيا
تطبيق القانون العراقي لنظام التقادم
عند حصر الحديث عند القوانين المدنية وحسب فأن النظام القانوني اللاتيني هو مصدر تاريخي للقانون الفرنسي و القانون الفرنسي و الشريعة الاسلامية هما المصدران التاريخيان للقانونين العراقي و المصري , و من ثم ان التقادم في القانونين المصري و الفرنسي هو تقادم مسقط للحق أو مكسب له فقط ولان ما يهمنا هو الاول فسنحصر الحديث حوله ,
يترتب على اعتبار مدة التقادم مسقطة للحق اعتبار التقادم وسيلة من وسائل انقضاء الالتزام بصورة بحتة , فينقضي ألالتزام حتى و ان اعترف المدين بوجود الحق , وان اوفى المدين دينه مع علمه بالتقادم يعتبر تبرعا منه ويمكنه الرجوع عنه دون الحاجة الى موافقة الدائن , ويتبين من ذلك عدم اتباع القانون المصري الفقهاء المسلمين في مسألة التقادم .
أما القانون العراقي فببساطة اتبع الفقهاء المسلمين في مسألة التقادم المانع من سماع الدعوى بدلا من المسقط في ما يتعلق بالحقوق الشخصية فأصبح التقادم فيه تقادما مانعا من سماع الدعوى أو مكسبا لهذه الحقوق فقط , أما الحقوق العينية الاصلية فيدخل فيها التقادم المسقط مثل سقوط حق الانتفاع كما ذكرنا ويستثنى من هذه الحقوق حق الملكية الذي لا يسقط بالتقادم , ويترتب على أتجاه القانون العراقي تبني التقادم المانع من سماع الدعوى الاعتراف بعدم سقوط الحقوق وإنما الامتناع عن معاونة أصحابها في الحصول عليها للأسباب التي ذكرناها , كذلك اشتراط انكار المدين للحق محل التقادم ٤٢٩ مدني بالنسبة للمدة العامة للتقادم و التقادم السنوي ٤٣١ مدني فأّذا اعترف المدين بوجود الحق يعتبر التقادم مقطوعا أي - بدأ من جديد - حتى وان اكتملت مدته وهذا الشرط لا ينطبق على التقادم الخمسي لأعتبار الحقوق التي يشملها تسدد من إيراد العيون المؤجرة او العمل او التجارة والذي يرتب اثارا مالية عسيرة على المدينين إذا ما ترك الحق للتقادم حتى وان اعترف المدين بوجوده , وايضا أعتبار الوفاء الصادر من المدين العالم بمدة التقادم وفاءا صحيحا وليس تبرع و من ثم ليس له الرجوع فيه.
التعليق و الخلاصة
أرى ان توجه القانون العراقي هو التوجه الافضل من بين القوانين اللاتينية , فالحق الموجود ماديا يبقى موجودا مهما مر عليه الزمان , وان كانت الدواعي الى تبني نظام التقادم دواعي هامة فعلا الا ان معالجتها لا تقتضي انكار الحقوق او تجنيب القضاء من ممارسة وظيفته فلا داعي للتخلي عن حق ليس اثبات وجوده صعبا بل يجب وضع الحد الذي يمثل فيه اثبات الحقوق امرا صعبا يفوق طاقة القضاء و وقته على المدى الواسع , كما اني لا ارى صحة القاعدة - الدين مطلوب غير محمول - خارج اجراءات المطالبة كما يعتبرها الكثير من القانونيين فكما من واجب الدائن المطالبة بحقوقه الشخصية من مدينيه لا يوجد ما يبرر للمدين امتناعه او تعاقسه عن اداء ديونه بل عليه السعي لسدادها وهو ما يقوم عليه مبدأ حسن النية في التعاملات التجارية الدولية بالفعل , مما يترك مجالا لتطوير القانون العراقي في هذا الشأن من خلال حث المدين الى السعي لتسديد ديونه من خلال تقييد تصرفاته المالية تارة وترتيب حقوق اضافية للدائن تجاهه عند المطالبة وانقطاع جزء كبير من مدة التقادم , و يجب ان نشير الى ان التقادم ليس نظاما محصورا في القانون المدني و الفروع المشتقة منه كقانون التجارة و اتفاقيات التجارة الدولية انما ينصرف الى القوانين الجنائية ايضا وهو موضوع يطول شرحه هنا لذا نترك له بحثا منفصلا .
-----------------------------------------------------------------------------------------------
مصادر البحث
احكام الالتزام الاساتذة عبد المجيد الحكيم و محمد طه البشير و عبد الباقي البكري ص ٣١٠ و ٣٢٤
القانون المدني العراقي راجع المواد ١٢٥ و ١٣٦ و ٥٧٠ و ١١٣٤ بالنسبة لمدد السقوط
و المواد ٤٢٩ و ٤٣٠ و ٤٣١ لانواع التقادم المانع من سماع الدعوى
القانون المدني المصري المواد ٣٧٤-٣٨٨
اطروحة دكتوراه اثر الفقه المالكي على القانون الفرنسي
https://www.bibliotdroit.com/2019/01/blog-post_75.html