إن الإنسان كائن اجتماعي وكثير الاحتياجات وهو في طريقه لتلبية احتياجاته يصطدم بحقوق وحريات الآخرين من أقرانه . وهذا الكائن تقررت له حقوق والتزامات في سبيل تنظيم الحصول على هذه الاحتياجات . وقد نتج عن هذه العملية الكبيرة عدة أفكار ومصالح وحلول
لتدبير حصوله على مناه دون ان يمس الآخرين سواء بشكل مادي أم معنوي....ومن هذه العملية الطويلة تظهر لنا فكرة التعسف في استعمال الحقوق . لذلك تكمن إشكالية البحث في مدى تطبيق هذه الفكرة في دعوى عدم نفاذ التصرفات أو الدعوى البوليصية بالذات .
وقبل ذلك لابد ان نشير الى تعريف فكرة التعسف ، وشروطه وكذلك تناول المشرع العراقي له ثم نتناول دعوى عدم نفاذ التصرف بشيء من التفصيل لنصل أخيراًلى معرفة مدى إمكانية تطبيق نظرية التعسف على هذه الدعوى .
ما معنى التعسف ؟ التعسف في استعمال الحقوق هو استعمال الشخص لحقه بطريقة غير مشروعة . او هو أن يستعمل الإنسان حقوقه بطريقة تضر او تسبب الإضرار بالآخرين . بمعنى آخر هو تمتع الإنسان بممارسة حقوقه بطريقة لا تنتج عنها ضرر للغير او لا تؤدي وظيفتها الاجتماعية ؛ كون أن الحقوق لها وظيفة اجتماعية اذ انها مقيدة وليست مطلقة , بطريقة لا تسبب أضرار سواء مادية ام معنوية للغير . لذلك فهذه الحقوق تمارس وفق إطار خاص لا يجوز الخروج عنه هو عدم الاضرار.
فالأصل أن الجواز الشرعي ينافي الضمان . لكن هذه القاعدة التي تُقر إن الإنسان الذي يستعمل حق من حقوقه سواء في حقه في التنقل او حقه في السفر أو حقه في السكن او حقه في التصرف….الخ من الحقوق والحريات لا يكون مسؤولا عن الاضرار التي تنتج عن استعمال هذا الحق . لكن كما نعلم ان لكل قاعدة لها شواذ , فالشخص الذي استعمل حق من حقوقه ونتج عن هذا الاستعمال بعد توفر شروطه الذي تضر بالآخرين ضرر مقصود وجب عليه الضمان . وهذه هي فكرة التعسف بشكل عام وقد عبر عنها المشرع العراقي في القانون المدني العراقي في المادة (٧) منه التي تنص على :
١_ من استعمل حقه استعمالا غير جائز وجب عليه الضمان .
٢_ويصبح استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:-
أ_ إذا لم يقصد بهذا الاستعمال سوى الإضرار بالغير
ب_ إذا كانت المصالح التي يرمي الى تحقيقها قليلة الأهمية ، بحيث لا تتناسب مطلقا مع ما
يصيب الغير من ضرر بسببها
ج_ اذا كانت المصالح التي يرمي هذا الاستعمال الى تحقيقها غير مشروعة.
يتبين أن المشرع قد أورد قاعدة في الفقرة الأولى عن النتيجة استعمال هذا الحق ومن ثم بين في الفقرة التالية شروط تطبيق فكرة التعسف وقد جاءت هذه المادة مطلقة بحيث يسري عليها قياس أي حالة تتوفر بها الشروط أعلاه باعتبارها من فكرة التعسف .
وهنا نتساءل عن مدى إمكانية تحقق الشروط اعلاه على دعوى عدم نفاذ التصرف ؟
إن دعوى عدم نفاذ التصرف أو الدعوى البوليصية هي واحدة من الدعاوى أو الضمانات التي تقرر لمصلحة الدائن من اجل الضمان العام للدائنين لاستيفاء حقوقهم من مدينهم وهي ثلاث دعاوى واجرائين كالاتي:-
الدعوى غير المباشرة , والدعوى الصورية , و الدعوى البوليصية . والاجرائين هما حق الحبس للضمان , والحجر على المدين المفلس . ونرى أن كل من هذا الدعاوى والإجراءات تحتوي على شيء من صور التعسف في استعمال المدين حقه . لكن هذه الفكرة تظهر جلياً وبوضوح أكثر في دعوى عدم نفاذ التصرفات .
لذلك فنبدأ بتعريف الدعوى البوليصية كالاتي : وهي احدى الوسائل التي قررها المشرع العراقي للدائن من أجل استيفاء دينه في ذمة المدين المالية ومنعه في التصرف في ملكه بسوء نية وغش وبطريقة تضر في إمكانية حصوله على حقه .
يتبين من ذلك أن للدائن الذي أصبح حقه مستحق الأداء وقام مدينه بتهريب او بالتصرف في ماله ( المقرر في الذمة المالية لحقوق دائنيه ) سواء ببيعها أو رهنها أو إقراضها إلى الغير أو أي وجه من أوجه التصرفات بطريقة تنقص من ذمته المالية وتقف في طريق حصول الدائن على دينه , عندئذ يقوم الدائن بالدفع بالدعوى فيقوم بغل يد المدين عن التصرف في ملكه وحقه . إذ من المعروف أن للمالك سلطات ثلاث على ملكه هي الاستعمال والاستغلال والتصرف . لذلك يقوم هنا بغل يده او منعه في التصرف بحقه بطريقة تقف عائقاً لاستيفاء دينه ، اذ ان المدين في هذه الحالة يقوم بسوء نية وغش بتهريب والتصرف بأمواله في سبيل عدم حصول دائنه على دينه في ذمته .
وقد تناول المشرع العراقي دعوى عدم نفاذ التصرفات في المواد ( ٢٦٣-٢٦٩ ) من ق.م.ع اذ تنص المادة ٢٦٣ على ( يجوز لكل دائن أصبح حقه مستحق الأداء وصدر من مدينه تصرف ضار به قد انقص من حقوق المدين او زاد في التزاماته وترتب عليه إعسار المدين أو الزيادة في إعساره.....) وبعد ذلك أورد المشرع العراقي الشروط التي يجب توافرها في التصرف لاعتباره غير نافذ في مواجهة الدائن . اذ ان في المجمل هذه الدعوى تقوم على ( الغش يفسد كل شيء ) .
لذلك بعد هذا الموجز المختصر جداً على مفهوم هذه الدعوى وتكييفها القانوني نعود للإجابة على السؤال المتقدم في بداية بحثنا ألا وهو مدى إمكانية تطبيق فكرة التعسف في استعمال الحق من خلال دعوى عدم نفاذ التصرفات ؟ لمعرفة ذلك نرى مدى انطباق او توفر شروط فكرة التعسف في المادة (٧) ق.م.ع على دعوى عدم نفاذ التصرفات .
فالشرط الأول ألا وهو ( الإضرار بالغير ) فنرى تحقق هذا الشرط من خلال غش او سوء نية المدين في قيامه باستعمال حق من حقوقه , ألا وهو التصرف في ملكه بنية الإضرار بدائنه لمنعه من الحصول على دينه في ذمة المدين المالية الخاصة لحقوق دائنيه ومن قبيل هذه التصرفات : البيع , او الوصية , او القرض , او الهبة...الخ مع توافر شروط هذه التصرفات .
أما الشرطان الأخيران في المصالح القليلة والغير مشروعة , فهي تتوفر جلياً في هذه الدعوى اذ أن الهدف الوحيد الذي من أجله يقوم المدين بالتصرف بأمواله هو عرقلة حصول الدائن على حقه حتى وان كان هدف هذا التصرف غير مبرر او قليل الربح الذي يعود الى المدين . إذ مثال ذلك : عندما يقوم المدين بأضرار دائنه لدرجة ان يقوم ببيع بعض أمواله بثمن بخس او تافه او احيانا بلا عوض او بثمن قليل يصل إلى حد الغبن الفاحش وإن كانت قيمة المبيع كبيرة .
لذلك فإن مصلحة المدين من عملية التصرف هذه تكاد أن تكون معدومة وكذلك بالنسبة إلى الشرط الأخير , ففي بعض الأحيان تكون مصلحته غير مشروعة بالتصرف في أمواله بصرف النظر عن إن الحالات السابقة أعلاه تتوفر فيها عدم المشروعية . على سبيل المثال يقوم بصرفها لعمل محل للقمار أو لشراء مخدرات او التجارة بها في سبيل تحقيق مصلحة غير مشروعة الا وهي اضرار دائنة بعدم استيفاء حقه منه وغيرها من أوجه المصالح غير المشروعة التي يرمي الى تحقيقها .
ففي نهاية بحثنا وبعد استخلاص النتيجة نستطيع القول أن فكرة التعسف تظهر وتبرز صورتها بشكل واضح وكامل في دعوى عدم نفاذ التصرف وتتحقق عليها نص المادة (٧) من ق.م.ع
في الختام يظهر لنا ان ليس من المنطق او من قبيل احترام العقل ان نسلم عقولنا لما هو مسطر ومكتوب بل يجب أن تُستثمر هبة التفكير لاختراع الحلول للمشاكل التي قد لا نجد السبيل لحلها بمجرد تحديقنا لما هو موجود في الكتب . لكن الأمر يحتاج فقط الى التركيز والقليل من الجهد .
____________________________________________________
المصادر
١_ محمد طه البشير عبد الباقي البكري : أحكام الالتزام .
٢_ الدكتور حسين الكلابي : النظام العام العقدي . رسالة ماجستير٢٠٠٢ كلية القانون جامعة
النهرين .