مفهوم السياسة التشريعية و وظيفتها
السياسة التشريعية من الاوليات التي يحتاجها النظام القانوني لانتاج القاعدة المنظمة للسلوك , هذه السياسة ذات اهمية بالغة للقواعد القانونية في مجموعها وليس للقاعدة المجردة , إذ من خلال تبني سياسة تشريعية محددة ومستقرة تصاغ القواعد القانونية في القوانين المختلفة في ظلها لتنظيم او حماية نفس المصالح , يخلق انسجام وتكامل بين متون القوانين المختلفة , ومن ثم نكون أمام نظام قانوني .
إذن السياسة التشريعية ليست من متطلبات تشكيل القاعدة في حد ذاتها اذا ما نظرنا لهذه القاعدة بشكل منفرد. ولكن لتكون هذه القاعدة قانونية , من الضروري أن تكون ضمن نظام متجانس
يحمي وينظم مصالح محددة ومعروفة ومتفق على مفاهيمها ضمن الحدود الجغرافية والزمنية التي يعمل فيها هذا النظام القانوني .
كما أنه ليس من ضمن السياسة التشريعية , الأساليب المتبعة في صياغة القاعدة فهذه تسمى الفن التشريعي او الصياغة التشريعية . ولكن تتدخل السياسة التشريعية في صياغة القاعدة بالقدر الذي يضمن تحققها. وعلى أساس ما تقدم نجد أن السياسة التشريعية تعني مجموعة المبادئ التي يتبناها المشرع فتحدد له المصالح واجبة الحماية في الأحوال القانونية المختلفة(١) .
ومصطلح الحالة القانونية يعني حالة اجتماعية تحتاج الى معالجة قانونية مهما كانت هذه المعالجة , حتى الترك يمكن أن يكون معالجة قانونية , والمصطلح من الوسع ليحيط بالأوضاع و الوقائع الاجتماعية التي تحتاج معالجة قانونية , ويشمل بالتأكيد المحيط المكاني والزماني للواقعة أو الوضع الاجتماعي . وعندها يجب على المشرع عند صياغته القاعدة القانونية أن يراعي زمان الحالة ومكانها ليحقق أهداف المبادئ التي تبناها في سياسته . وهكذا أن المبادئ لا تتغير حسب الحالة , إنما تتغير الوسيلة لتحقيق المبدأ دون الاخلال به , فلا خلاف في أن نظام المبادئ يجب أن يشمل مبادئ تتناول الوسائل .
والإنسان يواجه باستمرار اختبارا لمبادئه التي اختار السير عليها . فهو في الحالات التي يصطدم بها , يتعامل مع محيطه من خلال أساليب تمثل وسائل مبتغيا نتائج معينة , جميعها تتلاءم مع المبادئ التي تبناها حقيقة . وعندما لا تحقق الوسائل النتائج او لا تتلائم النتائج مع المبادئ نكون أمام تجلي لحالة فشل في هذه العملية . فأما إن الوسيلة والنتيجة لا يقبلهما نظام المبادئ , أو أن الوسيلة او النتيجة امتداد طبيعي لأحد المبادئ في النظام . وعندها يكون هذا المبدأ مناقضا لبعض أو كل المبادئ الأخرى ,ربما لاتساع نطاقه او ضيقه او فساده بشكل كامل . وهكذا يتحول نظام المبادئ المتجانس الى مجموعة من المبادئ ليس التجانس شرطا لوجودها .
وفحص المبدأ من هذه الجهة يتطلب إدراكا لمفهوم الإنسان بطبيعته المركبة من الماديات والمطلقات , ويتطلب إدراكا لموقعه ودوره في المجتمع , ويتطلب إدراكا لما يجب أن يكون كل من الإنسان والمجتمع , كما يتطلب على مستوى الإنسان الفرد إدراكا لأساسات تفكيره وتأثيره من النواحي التي تمس استجابات العالم الخارجي .
وعلى قياس ذلك توضع المؤسسة التشريعية , فتختار هذه المؤسسة مجموعة من المبادئ المتجانسة لتكون نظاما من المبادئ يرشدها في العملية التشريعية بأستمرار . أما عملية اختبار المبادئ فإن المؤسسة التشريعية تواجهها بقدر من السهولة النظرية إذا ما قورنت بالفرد . فالفرد يطور مبادئه ويتخلى أو يتبنى بعضها تبعا لخبراته المكتسبة والمفاهيم و النماذج التفسيرية التي يختار تبنيها , والنماذج المهيمنة على فكره التي يتعرض لها , ومن ثم يرتبط كل ذلك بمقدار نضجه العقلي واستيعابه العلمي . وهو ما تستطيع المؤسسة التشريعية الوصول إلى ذروته قبل البدء بالتشريع , لتوصلها الى القدرات العلمية الأكثر تطورا و المفاهيم الأكثر حقيقة والتاريخ القانوني الذي يقابل المختبر في العلوم التطبيقية . وبالتالي القدرة النظرية على تخطي فشل المبدأ , دون إنكار إمكانية فشل الوسيلة والنتيجة . فالوسائل تتطلب التغيير وفق المحيط الزماني والمكاني , و النظام الذي يتناول مبدأ الوسائل يجب ان يتناول تغير الوسائل اطرادا مع الظروف التي تؤثر على جدواها . أما النتيجة فتناقض المبادئ في حالتين , اما استتباع الفشل الوسيلة او الاخفاق في إدراك المعطيات المحيطة بالواقعة .
مفهوم علم القانون المقارن ودوره الحالي
في الأنموذج , أن نظام المبادئ الذي يتبناه المشرع نابع من منظومة اخلاقية نابعة بدورها من الاستنتاجات العقلية و الدين . وهذان الاخيران في حالة الإسلام متوافقان , فالإسلام يوجه خطابه إلى العقل ومن هذا قوله تعالى ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ..) الأنبياء ٧٩ , وقوله تعالى (... ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) البقرة ٧٣ , وقوله تعالى ( ….اولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) الزمر ١٨ . ولكن لتبني العلوم بمجموعها توجها علمانيا , يتزايد النقص في الحقيقة في كل استنتاج تطرحه العلوم الانسانية . التي في تبنيها للنهج العلماني الذي يبدو مناسبا جدا في العلوم التطبيقية , تصبح قاصرة في تفسير السلوكيات الانسانية التي فشلت الفلسفات العلمانية في احتوائها , وذلك للأسف ثبت بالتجربة(٢) .
فهذا التوجه ينكر طبيعة الجانب النفسي والمعنوي الذي يحرك الانسان اضافة الى غرائزه . فهي تقيس المطلق بمقاييس مادية . ويمكننا أن نسوق كدليل على ذلك نسبية هذه العلوم , فاذا نظرنا الى علم النفس فأنه يفسر السلوكيات الانسانية وفق نسب , فيقال مثلا ان ٦٠ بالمئة ممن يتعرضون لكذا يصابون بكذا , وأما الباقي فلا يتعرضون للاصابة لاسباب مختلفة او لنقص نسب العوامل المؤدية للاصابة . وهذا التوجه فيما يتعلق بعلم النفس أثار الشك في الاستنتاجات التي يطرحها علمائه حتى وصل الشك الى طرح التساؤل عن حقيق كون الدراسات النفسية علما . وينتج عن هذه العملية أن ترتبط المبادئ التي يتبناها المشرع بعلوم تقدم حقيقة ناقصة او تقدم حقائق غير مترابطة لا تكفي وحدها لتحقيق أهداف القانون النموذجية .
وذلك لا يعني بأي حال اهمال تلك العلوم , بل يجب اسنادها بمنظومة اخلاقية تقوم على مطلقات انسانية , وهذه ليست بأي حال من الاحوال غير واقعية أو انها تدخل في الفلسفة وتخرج من مدار العلم , فكما اسسنا , أن العلم الذي يبحث الإنسان دون إدراك حقيقة الإنسان أولا لن يقدم المعرفة ولن يقدم الحقيقة .
ومن العلوم التي يرجع إليها المشرع علم القانون المقارن . وعلم القانون المقارن ليس هو علم القانون . وإن كان بعض الشراح يشيرون إليه بهذا الاسم(٣). فعلم القانون المقارن هو المعرفة الناتجة من دراسة ومقارنة النظم القانونية و المعالجة القانونية المختلفة من حيث الزمان أو النظام للأحوال الاجتماعية(٤) . اما علم القانون ورغم الانكار التطبيقي لنطاق او وجود هكذا مفهوم . فإنه العلم الذي يبحث عن افضل تنظيم لحالة اجتماعية معينة .
وبالرجوع الى علم القانون المقارن , فهو احد الادوات التي يستخدمها المشرع بكثرة في العصر الحالي , فهو يقوم بمقارنة المعالجة القانونية للأحوال الاجتماعية . والمقارنة تكون زمانية أو بين النظم المختلفة . فبالنسبة للمقارنة الزمانية , يدرس الباحث القاعدة التي تعالج الحالة القانونية في ذات النظام القانوني للدولة وتطورها عبر الزمن , من ذلك مثلا دراسة القواعد القانونية الجنائية في القانون البغدادي , ومقارنتها بقانون العقوبات رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ . و الدراسة يجب أن تحيط الظروف التي أحاطت تشريع القاعدة من جميع النواحي . وعلى غرار ذلك المقارنة بين النظم القانونية . مع الاختلاف في أن المقارنة بين النظم تكون بين قواعد قانونية قائمة لنظم قانونية مختلفة كالمقارنة بين القانون المدني العراقي و الفرنسي او المقارنة بين النظم اللاتينية و الاسلامية وهكذا .
العلاقة بين السياسة التشريعية و القانون المقارن
إن الغرض من المقارنة هو الوصول الى آخر ما وصل إليه التطور في المعالجة التشريعية للأحوال القانونية , فالمشرع بهذا الشكل يبحث عن طريق مختصر يتبنى من خلاله قواعد قانونية جاهزة يستطيع التعديل عليها بما يلائم الظروف التي تحيط تطبيقه . ومثل هذا التبني للقواعد يحتاج الى احاطة بجميع المعطيات التي احاطت تشريع وتطبيق القاعدة المراد تبنيها ومدى نجاحه . ولعل ذلك يكون اسهل فيما يتعلق بالقوانين العتيقة التي أثبتت نجاحها منذ زمن . من ذلك القانون المدني الفرنسي فيما لم يمسه تعديل عام ٢٠١٦ . ويجب أن يدرك المشرع ان مجرد استقرار القانون عبر الزمن من أهم العوامل في نجاحه , خصوصا عندما يقبل المجتمع محل التنظيم التكيف مع القاعدة . فالقاعدة تخضع للتقييم والتكييف النظري من قبل المشرع .
أن تبني القواعد التشريعية أمر يدل على قصور تشريعي , فالمجتمعات مختلفة بطبيعة تعددها و القانون الذي يحكم جماعة من الناس يجب أن يكون من أسسه الاولى العوامل المشتركة بين أفراد هذه الجماعة , ولو كانت هذه العوامل مشتركة بين عدة جماعات بشكل مثالي , لما انقسمت إلى عدة مجتمعات . من ثم يتضح قصور هذا الأسلوب في الوصول الى غاية القانون من التنظيم .
ومن الامثلة الشهيرة على التبني الغير فعال للقواعد , تبني تخفيف عقوبة القتل للزنا , حيث تخفف عقوبة الزوج أو أي من الزوجين إذا فاجأ زوجه متلبسا بالزنا فقتله هو او شريكه او كلاهما . ونصت أغلب القوانين العربية على حكم مماثل لهذا , حيث القانون العراقي في المادة ٤٠٩ ق ع ع و القانون المصري في ٢٣٧ ق ع م والقانون الليبي في ٣٧٥ ق ع ل(٥) . و سياسة المشرعين في هذه الانظمة القانونية تتبنى الشريعة الاسلامية والنظام اللاتيني مع بعض التحفظات . ولا حاجة للقول إن قتل الزوج أو الزوجة للزنى حتى في حالة التلبس امر غير جائز في الاسلام وعقابه القصاص . فالاسلام احال واجب تقدير العقوبة للحاكم اي القاضي لا الجاني او المجني عليه(٦) .و العقوبة في ما يتعلق بالزنا واضحة . الرجم حتى الموت للمحصن والمحصنة . أو الجلد مئة جلدة أمام جمع من العامة لغير المحصن والمحصنة . والحقيقة أن هذه العقوبة فيها من الحكمة العجب , فالانسان من طباعه الغريبة انه يخاف الإذلال أمام العامة ويدور ذلك في ذهنه أكثر من الموت .
ولكن المشرعين العرب ارتئو تبني التوجه اللاتيني في مواجهة هذه الظاهرة وهو تخفيف العقوبة . فهذا توجه القانون الفرنسي في المواد ٣٣٦-٣٣٩ من القانون الفرنسي القديم لعام ١٨١٠ , وهو من المصادر التاريخية للقانون المصري الذي يعد بدوره مصدرا تاريخيا لعديد من القوانين العربية , وقت تعدل القانون الفرنسي والغيت المواد المتعلقة بتجريم الزنى عام ١٩٧٥ واستبدل قانون العقوبات القديم بالكامل عام ١٩٩٤ , و هنالك نص شبيه في قانون العقوبات الايطالي لعام ١٩٣٠ في المادة ٥٨٧ (٧).
وعند استقراء النص الإيطالي نرى أن الشروط المتعلقة بالحالة النفسية و المفاجأة بالزنى جميعها جائت من هذا النص وليس النص الفرنسي .
ويجب ملاحظة تأثير وجود النص في حد ذاته على الافراد , اي يجب النظر الى ردة فعل الفرد عند اطلاعه على النص , وهذا من أهم الأساليب التشريعية , حيث أن وجود نص يخفف عقوبة القتل , والى حد كبير , ينطوي بلا شك على تشجيع ضمني , مقصود او غير مقصود , لارتكاب الجريمة , فالجاني يسمع النص - تخفف عقوبة من قتل زوجه متلبسا بالزنا - بدلا من - يعاقب بالسجن المؤبد او المؤقت كل من قتل نفس بغير حق - . فعندما يكون هدف القانون منع الجريمة وليس فقط العقاب عليها , يكون وقع النص من أهم الوسائل لتحقيق هذا الهدف .
الوظيفة النموذجية لعلم القانون المقارن
إن علم القانون المقارن في الوقت الحاضر يمثل علما مساعدا للعملية التشريعية . وذلك من خلال استعمال المشرع ادوات هذا العلم في تسهيل عملية التشريع , وغني عن البيان ان الاحاطة بالظروف المحيطة بكل تشريع تتم دراسته امر غير مطبق حقيقة , والأصل أن هذه ليست وظيفة هذا العلم بالأساس , بل يمكننا القول بلا تردد أن استخدامه بهذا الشكل وحتى بالصورة النموذجية هو أحد أسباب الفوضى في المجتمع . هذه الفوضى حين تنسحب الى قانون مثل القانون الجنائي تكون اجراما .
إذا ما الفائدة من القانون المقارن في العملية القانونية ؟
اذا ما رجعنا الى علم القانون الذي عرفناه بأنه العلم الذي يبحث عن افضل تنظيم لحالة اجتماعية معينة . نستطيع ان نرى ان العملية التشريعية التي نتيجتها القاعدة القانونية هي تطبيق هذا العلم وأن السياسة التشريعية هي المبادئ التي تمثل حلقة الوصل بين علم القانون والعملية التشريعية , اذا السياسة الجنائية هي المبادئ التي تمثل انعكاسا للحقيقة التي استنتجها علم القانون واساسا للتطبيق العملي لها . وهذه العلمية من الصعب تخيل نجاحها دون الاختبار , والاختبار من الأساسيات في العلوم كافة . ولكن المجتمع ليس مختبرا وليس من المقبول المساس بحقوق أفراده على سبيل الاختبار , وهذا دور علم القانون المقارن . فهو المختبر الذي إذا أحطنا بالمعطيات التي يمليها علينا نستطيع التنبؤ بنجاح او فشل القاعدة , بل رسم القاعدة المثالية في مجال وظيفة القانون , والذي جوهره - القانون - العملية العلمية التي سميناها علم القانون .
الهوامش :
١- يذكر بعض الباحثين ان السياسة ترادف الخطة كما في سياسة الحكومة او سياسة التنفيذ وهو مفهوم مختلف عن مفهوم السياسة الذي نطرحه في هذه الدراسة .
٢- اقصد بالفلسفات العلمانية الفلسفات التي ترى الإنسان كائن ماديا بالكامل , ويعني ذلك أنها ترى أن أخلاقيات الفرد وشعوره الديني وشعوره الوطني تقاس بنفس المقياس الذي تقاس به غرائزه الحيوانية كالجوع و البقاء والتكاثر . ومن ثم يكون الإنسان جزءا من الطبيعة ويخضع لقوانينها بشكل مطلق وبذات المعطيات التي يخضع بها الحيوان في الطبيعة .
٣- من هؤلاء الشراح الاستاذ احمد فتحي سرور في اصول السياسة الجنائية ٨-٩.
٤- ويعرفه آخرون بأنه مجال دراسي مكرس للمقارنة المنظمة بين نظامين قانونيين أو أكثر، أو بين عناصر معينة من تلك النظم، من خلال تحليل مجموعة من الأفكار المشتركة والمختلفة بينها . Hastings International and Comparative Law Review 2008, vol. 31, p. 295-360 .
٥- جرائم الشرف في ظل التشريعات العربية والعالمية . معالي حميد الشمري . مجلة واسط للعلوم الانسانية العدد ١٨ . ٢٩٥-٣٠٠ .
٦- يجب الملاحظة في هذا الامر ان لو كل من الزوج أو الزوجة قد قتل زوجه الزاني , فإن القضاء حسب الشريعة الاسلامية يبحث في إثبات الزنا , فإن تحقق الزنا فلا تخفف العقوبة عن الجاني بل تسقط وذلك من باب أن القاتل إنما طبق حكم الشريعة التي تقضي برجم الزاني المحصن حتى الموت ومراعاة لظروف الواقعة , اما اذا لم يثبت تحقق الزنا فأن عقوبة القاتل القصاص . راجع حول هذا الموضوع : زاد المعاد في هدي خير العباد . المجلد الخامس ٣٦٢ .
٧- المفاجأة بالزنى عنصر استفزاز في القتل و الايذاء : دراسة مقارنة . قاسم تركي الجنابي ٤١-٤٢ .