من المعلوم أن العقد بعد إتمام انعقاده يصبح ملزم ولا يجوز التراجع عنه بالإرادة المنفردة لأحد المتعاقدين وهذا ما أكدته المادة ١٤٦/ ١ من القانون المدني العراقي والتي نصت على الآتي :- (إذا نفذ العقد كان لازما ولا يجوز لأحد العاقدين الرجوع عنه ولا تعديله إلا بمقتضى نص في القانون أو بالتراضي).
وبذلك يجب على المدين بعد الانعقاد أن ينفذ عين ما التزم به. والا ستثار بشأنه المسؤولية العقدية ولكن هذا الكلام لا يطبق بشكل دائم حيث يمكن أن تستجد ظروف غير متوقعة وخارج عن إرادة المتعاقدين تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا أو مرهقا على المدين مما يستوجب تطبيق نظرية السبب الأجنبي التي نص عليها القانون المدني في المادة ٢١١ (إذا اثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه كآفة سماوية أو حادث فجائي أو قوة قاهرة أو فعل الغير أو خطأ المضرور كان غير ملزم بالضمان ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك).
وعليه في حال انقطاع الرابطة السببية للمسؤولية العقدية التي تربط الخطأ بالضرر بأحد تلك الأسباب يمكن حينئذ تغيير التزام المدين بما يتلائم مع الظروف الجديدة ومن تطبيقات على ذلك نظرية الظروف الطارئة المادة ١٤٦/ ٢ ومفاد هذه النظرية أن في حال وقوع ظروف عامة طارئة وغير متوقعة وخارج عن إرادة المتعاقدين أثناء تنفيذ العقود المستمرة أو العقود المنجزة مؤجلة التنفيذ جعلت من التزام المدين مرهقا جاز للقاضي أن ينقص من تلك الالتزامات بما يعيد التوازن الاقتصادي للعقد. ومن تطبيقاته أيضا نظرية القوة القاهرة المادة ٢١١ من القانون و التي تفترض وجود ظروف قاهرة ادت الى استحالة تنفيذ الالتزام مما يؤدي الى انهائه، إذ لا التزام بمستحيل المادة ١٦٨.
وبهذا نجد أن الاختلاف بين النظريتين هو أن الأولى تفرض إنقاص الالتزام إلى الحد المعقول أم الثانية فتنهي الالتزام. (١)
ومن الملاحظ بخصوص نظرية القوة القاهرة أن المشرع العراقي قد تطرق لها على أساس كونها دائمة ولم يشر إلى القوة القاهرة المؤقتة التي توقف تنفيذ العقد بشكل مستقل على عكس المشرع الفرنسي الذي ذكرها مؤخرا في نص مادة ١٢١٨ من قانونه المدني. (٢)
ومع ذلك فقد تناول الفقه والقضاء العراقي تلك النظرية ووضع لها عدة تعريفات. كما وقد اتخذ القضاء العراقي من نص المادة ٢٩٧ من القانون المدني سبيلاً لايقاف الالتزامات العقدية بشكل مؤقت حيث اعطت هذه المادة للقاضي الحق في تأجيل العقد لمدة يحددها وله في ذلك سلطة تقديرية اذا كان الالتزام يتطلب ان يؤديه المدين عند المقدرة.
وسنتحدث هنا عن هذه النظرية بمطلبين الأول عن تعريف القوة القاهرة المؤقتة وشروطها والثاني عن أثر هذه النظرية على تنفيذ العقود.
المطلب الأول
مفهوم نظرية القوة القاهرة وشروطها
يمكننا تعريف القوة القاهرة المؤقتة بأنها ظرف يطرأ على العقد يجعل تنفيذه مستحيلا لفترة مؤقتة وبهذا تختلف القوة القاهرة المؤقتة عن القوة القاهرة الدائمة حيث أن الأخيرة يكون الظرف فيها دائما وغير قابل للزوال بعكس الأولى اذ يكون الظرف فيها مؤقتا وزائلاً .
ومن الجدير ذكره أن في كلا الحالتين اي سواء اكانت القوة القاهرة دائمة او مؤقتة فان ذلك الظرف يجب أن تتوفر فيه شروط الظرف الموجب لاستحالة التنفيذ ككونه عاما، غير متوقعا، خارجا عن إرادة المتعاقدين وقد وقع أثناء تنفيذ العقود المستمرة أو المنجزة مؤجلة التنفيذ ويمكننا اعتبار هذا الأمر نقطة مشتركة بين الحالتين.
شروط تطبيق هذه النظرية
هناك شرطان أساسيان لتطبيق هذه النظرية:- (٢)
١) ان تكون الاستحالة مؤقته
يوجب هذا الشرط في الظرف الموجب للاستحالة أن يكون مؤقتا أي قابلا للزوال بعد مدة معينة وخلو الظرف من هذا المعنى ينفي عليه صفة القوة القاهرة المؤقتة فاذا كان الظرف مستمرا فنحن حينئذ أمام قوة قاهرة دائمة ومن الأمثلة ظروف الاستحالة المؤقتة أنتشار الاوبئة ويمكن ان نعتبر أنتشار فيروس كورونا مثال حي لهذه الفكرة حيث أن انتشار ذلك الفيروس ادى إلى فرض حظر تجوال إلا أن هذا الحظر كان مؤقتا لمدة من الزمن فيمكن اعتبار هذه المدة مدة لايقاف العقد بين اطرافه واستئنافه بعد انتهاء تلك المدة.
ومن الأمثلة الأخرى على الاستحالة المؤقتة هي مدة وقوع النزاعات المسلحة حيث تعد قوة قاهرة مؤقته تعلق تنفيذ العقد ومن ثم إعادة العمل به بعد انتهاء تلك النزاعات.
٢) ان لا يكون لمدة تنفيذ الالتزام اعتبار جوهري في العقد
يعد هذا الشرط شرطا جوهريا فإن كان عدم التأخير في تنفيذ العقد امرا جوهريا بالنسبة للمتعاقدين فهذا يتعارض مع الغرض الأساسي لنظرية القوة القاهرة المؤقتة والذي يقوم على أساس تأجيل تنفيذ الالتزامات إلى الفترة التي تعقب مدة القوة القاهرة المؤقتة .
ويمكن معرفة كون التاخير أمر جوهري بالنسبة للمتعاقدين من عدمه عن طريق الاتفاق أو عن طريق نية المتعاقدين فبالنسبة للأمر الأول فيتجسد في اتفاق المتعاقدين على تنفيذ العقد في أجل معين كأن يتفقا على تنفيذه خلال شهر وحدثت خلال تلك المدة القوة القاهرة المؤقتة التي حالت دون تنفيذ العقد خلال مدة الشهر كاصدار السلطة العامة لأمر بإيقاف التعاملات خلال هذا الشهر ففي هذه الحالة لا يكون أمام هذا العقد سوى الفسخ لاستحالة التنفيذ كون مدة تنفيذه هي مدة جوهرية وبالتالي لا يمكن تأجيل تنفيذه.
أما بالنسبة للأمر الثاني المتعلق بنية المتعاقدين فيمكن استخلاصها عن طريق ظروف العقد فلو أبُرم عقد استيراد لبضاعة مدرسية فمن المؤكد أن موعد التسليم يجب أن يكون خلال الموسم الدراسي إذا أن تسليمها بعد انتهاء ذلك الموسم لا جدوى منه. إذا يعد الزمن في هذا العقد عنصرا جوهريا لذلك لا يمكن تطبيق نظرية القوة القاهرة المؤقتة عليه.
المطلب الثاني
أثر القوة القاهرة المؤقتة على تنفيذ العقد
إن استجدت أحد الظروف المؤدية إلى استحالة المؤقتة فإن ذلك يؤدي إلى تعليق التزامات أطراف العلاقة العقدية جميعا وليس مجرد تعليقها بالنسبة لمن تعرض للقوة حيث لابد عند توقيف التزامات أحد الطرفين أن توقف التزامات الطرف الآخر وهذا ما تقتضيه العدالة فمن غير المعقول أن يستمر الطرف الآخر بأداء التزامه على الرغم من توقف الطرف الأول من تنفيذ التزامه.
وبعد زوال تلك الظروف يستأنف أطراف العلاقة العقدية أداء التزاماتهم حيث إذا امتنع المدين عن تنفيذ التزاماته بعد انتهاء مدة استحالة جاز للدائن الطلب بتنفيذ العقد كما يحق له طلب التعويض إذا كان له مقتضى. ومن الجدير ذكره أن الدائن لا يستطيع مطالبة المدين بالتعويض عن الفترة التي توقف فيها العقد إذ لا يكون المدين مسؤولا عن التعويض خلال هذه المدة كونها مدة استحالة فيها التنفيذ وكذلك الحال بالنسبة للغير الذي تعاقد مع أحد أطراف العقد المتوقف اذ انه هو الآخر لا يستطيع المطالبة بالتعويض. فإن افترضنا وجود عقد استيراد بين طرفين وكان الشخص المستورد قد باع البضاعة لشخص آخر قبل أن يتسلمها واتفق مع المشتري على أن يسلمه البضاعة بعد وصولها فإذا توقف عقد الاستيراد لأي سبب موجب للتوقف كوباء او أمر من سلطة عامة أو ما شاكله فهنا كما لا يحق للمستورد أن يطالب بالتعويض عن فترة التوقف فإن المشتري (الغير) ايضا لا يجوز له مطالبة المستورد بالتعويض عن تلك المدة.
وأخيرا فإننا نتأمل من المشرع العراقي أن يضيف نص مستقل يعالج فيه نظرية القوة القاهرة المؤقتة لما لها من أهمية في دائرة العلاقات العقدية حيث أن اعتبار العقد منفسخا لمجرد وقوع قوة قاهرة سواء كان دائمة أو مؤقته لا يستقيم فأحيانا تعليق الالتزامات تنصب في مصلحة أطراف العقد على عكس الفسخ الذي يسبب ضررا للأطراف.
وجوهر هذا الكلام يتجسد في المثال الآتي:-
اذا طلب شخص من شركة سيارات خارج العراق أن تصمم له سيارة بمواصفات معينة كأن يطلب أن تكون بلون معين وأن يحفر عليها اسمه وقامت الشركة بتصميمها وفي أثناء شحنها إلى الزبون حدثت قوة قاهرة مؤقته حالت دون إيصالها إلى الزبون فهنا لو افترضنا بعدم وجود نظرية القوة القاهرة المؤقتة سيكون مصير هذا العقد الفسخ بسبب وجود قوة قاهرة وهذا الفسخ سيتسبب بضرر للطرفي العلاقة العقدية حيث أن الشركة لا تستطيع بيع هذه السيارة لزبون آخر كونها صممت بمواصفات خاصة وبالنسبة للزبون فمن المؤكد أنه يفضل أن يحصل على السيارة كونه طلب أن تكون بمواصفات التي يحلم بها ،لذلك يعد تعليق الإلتزامات هو الحل الأمثل لهما وبذلك تبرز أهمية نظرية القوة القاهرة المؤقتة في وضع حل مرضي للطرفين متمثل بالمحافظة على هذا العقد من الفسخ واستمراره بعد زوال القوة القاهرة.
المصادر
١) نظرية الظروف الطارئة وأثرها على تنفيد الالتزام التعاقدي ل د. اقصاصي عبد القادر ص١٣٣
٢) القوة القاهرة المؤقتة و اثرها في تنفيد العقد - دراسة مقارنة - ل د. ندى عبد الكاظم ص ٥، ٨-١٠