بقلم : ياسر عمار العيبي
في المرحلة التي سبقت نشأة القضاء الإداري قبل صدور التعديل الثاني القانون مجلس شورى الدولة عام ١٩٨٩ الذي تم بموجبه استحداث محكمة للقضاء الإداري نتلمس تردد القضاء العراقي في فرض رقابته على أعمال الإدارة عموما. فقد ذهبت محكمة التمييز - في أكثر من حكم لها - إلى أنه : ( ليس للمحاكم ولاية القضاء على القرارات الإدارية الصادرة عن السلطات ذات الشأن ما لم يكن هناك ضرر نتج عن قرار إداري صادر خلاف القانون )
وأسست محكمة التمييز قضاؤها في هذه الأحكام على أن قاعدة الفصل بين السلطات لا تجيز للسلطة القضائية النظر في أعمال السلطة التنفيذية الممنوحة لها لها وفق أحكام القانون
والظاهر أن المفهوم الذي يستند إليه قضاء محكمة التمييز للفصل بين السلطات يتعارض مع المفهوم الواقعي والعملي لهذا المبدأ، إذ لم يعد مقبولا المفهوم المطلق للفصل بين السلطات بل إن الهيئات العامة في الدولة تباشر اختصاصاتها ووظائفها على أساس من التعاون والمساواة والتوازن بينها ، ورقابة القضاء على أعمال الإدارة لا تعني انتقاصا من تلك المساواة أو إخلالاً بذلك التوازن بل العكس تماما ، فهذه الرقابة هي رقابة على الحدود النهائية لكل سلطة من السلطات - قبل كل شيء - بما يمنع تجاوزها على غيرها دون أن يعني ذلك بحال خضوع السلطة التنفيذية عضويا لسلطة القضاء .
ويلاحظ ان محكمة التمييز نفسها عادت فيما بعد وأقرت ضمنا ان انعدام ولايتها على الغاء القرارات الإدارية إنما يقتصر - فقط - على القرارات المشروعة التي تصدر . من جهة مختصة وفي حدود القانون، مما يعني وبمفهوم المخالفة أنها تملك ولاية الإلغاء على القرارات غير المشروعة .
وهو المستفاد من حكمها الصادر بتاريخ ١ / ١٠ / ١٩٦٩ ، والذي جاء فيه ( وقد وجد ان المميز عليه في فرضه الرسم الجمركي على المميزين لم يتجاوز سلطته القانونية باعتبار أنهما المستوردان للبضاعة وأنهما صاحباها المسؤولان عن الرسم الجمركي عنها بمقتضى قانون الكمارك وكان من حقهما مراجعة طرق الطعن المنصوص عليها في المادتين ١٦٣ و ١٦٤ من القانون المذكور إذا وجدا القرار مخالفا للقانون لا أن يقيمها هذه الدعوى في المحاكم العامة لالغائه إذ لا ولاية للمحاكم للنظر في إلغاء قرار إداري صادر من موظف مختص قانونا بإصداره ولم يتجاوز فيه حدود سلطته القانونية وقد عين القانون طرق الطعن فيه ... ))
ثم انتهت محكمة التمييز بعد ذلك - وفي حكم آخر - إلى الاعتراف صراحة للمحاكم العراقية . بولاية إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة. فقضت بأن ( أما القول بأن المحاكم لا تملك إلغاء القرار الفردي فغير وارد . إذ أن القضاء له الولاية العامة وهو الحارس على حقوق الناس إلا في المجالات الممنوع منها قانوناً، فلذلك إذا ثبت للقضاء أن القرار الإداري لا سند له في القانون يدعمه ولا يوجد قانون خاص يمنعه من ممارسة اختصاصه فيه فله أن يصدر من الأحكام ما يعيد الحق لنصابه )
وبالتالي كانت المحاكم العادية تمتلك الولاية العامة في نظر جميع المنازعات سواء التي تحصل بين الأفراد أو بينهم وبين الإدارة وأساس هذه الفكرة كانت منذ نشأة النظام القانوني العراقي الحديث اذ قضى القانون الأساسي الذي اعقب استقلال العراق عن الدولة العثمانية وتأسيس الدولة العراقية الحديثة بأن يكون للمحاكم العادية هذا الاتجاه وهو حق القضاء تجاه جميع الأشخاص وفي كل الدعاوي والأمور المدنية والجزائية التي تقيمها الحكومة أو تقام عليها
ولان لكل قاعدة عامة استثناء
حيث ان المشرع استثنا من الولاية العامة للمحاكم المدنية الاتي : دعاوى التعويض عن الوفاة أو الإصابة البدنية وفقا لقانون التأمين الالزامي عن حوادث السيارات، الاصلاح الزراعي والاستملاك وضريبة الدخل ، و احكام قوانين الجنسية .
يرى بعض الفقه أن مبرر هذه الاستثناءات يكمن في (( أن قواعد القانون الخاص التي ألف القاضي العراقي الـسير على تطبيقها لا تلاءم المنازعات الناشئة جراء تطبيق تلك القوانين، ولهذا تحال هذه المنازعات إلى لجان أو مجالس ذات اختصاص قضائي أقرب إلى أن يكون إداريا ))
ويرى الاستاذ وسام صبار العاني ( أنه لا يمكن التسليم بهذا الرأي، ذلك أن القضاء العادي وإن كان الأصل فيه تطبيق قواعد القانون الخاص فيما يعرض عليه من منازعات لكن ذلك لا يمنع ولا يحول دون إمكان تطبيق ما يراه ملائما من مبادئ وقواعد القانون العام على المنازعات التي تكون جهة الإدارة طرقا فيها حسب طبيعة المنازعة .
وعلى الرغم أيضا من وفرة النصوص السابقة ووضوحها، فقد ذهب رأي في الفقه العراقي، إلى أن المحاكم العراقية لا تملك إلغاء الأمر أو القرار الإداري الذي يتبين لها عدم مشروعيته، كما لا يجوز لها أن تحكم بإيقاف تنفيذه، وإن غاية ما تستطيعه هذه المحاكم هو أن تحكم فقط بالتعويض المناسب لمن لحقه ضرر من الأمر أو القرار الإداري غير المشروع .
ويرى الاستاذ وسام ان القول بتقييد ولاية القضاء قول لا سند له من القانون، ويتنافى مع الأصل العام الذي يسود دول القضاء الموحد والذي يتمثل في ان المحاكم العامة على جميع المنازعات الإدارية إلغاء وتعويضا إلا ما يستثنى من تلك الولاية بنصوص صريحة .
وجاءت الدساتير العراقية جميعا خلوا من أي نص يحظر أو يقيد ولاية القضاء العامة في نظر جميع المنازعات . بما فيها تلك التي تكون الادارة طرفا فيها . ومنها المادة ( ١٠٠ ) من الدستور العراقي لسنة ٢٠٠٥ والتي تنص على أنه: ( يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل او قرار اداري من الطعن امام القضاء) . ولذلك فقد انتهت محكمة التمييز - كما أشرنا سابقا - إلى الاعتراف للمحاكم العراقية بولاية إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة، وإن كان ذلك على نحو محدود.
وبالرغم من ذلك فإن محكمة التمييز ، وخلفها بقية المحاكم العراقية، لم تستعمل حقها - كاملاً - في إلغاء الأنظمة والقرارات غير المشروعة، ولعل ذلك يعود، فضلا عن إحجام المحاكم وترددها في بـسط رقابتها على أعمال الإدارة لا سيما رقابة الإلغاء، إلى كثرة النصوص المقيدة لولاية القضاء واعتبار معظم الموضوعات التي تتضمنها أنشطة الإدارة من أعمال السيادة التي يخرجها المشرع العراقي من و ولاية القضاء . وبدلاً من أن تعمل محكمة التمييز ومعها بقية المحاكم العراقية . على بسط رقابتها في فحص مشروعية الأنظمة والقرارات الإدارية، وتأكيد أهمية تلك الرقابة ضمانا لحقوق الأفراد وحرياتهم من تعسف الإدارة وانحرافها، فإنها قيدت نفسها بنفسها فعاقها إحجامها وترددها عن واجبها في التصدي للرقابة على أعمال الإدارة وإلغاء غير المشروع منها.
واخيراً ، الحدث الجوهري في تاريخ القضاء العراقي بصدور التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة عام ١٩٨٩م
والتي استحدثت لاول مرة محكمة القضاء الاداري التي تمثل نواة القضاء الاداري والتي تختص بالنظر في صحة الأوامر والقرارات الادارية التي تصدر من الموظفين والهيئات الادارية
المراجع
١- د. وسام صبار العاني القضاء الإداري
٢- أنظر المادة ( ٧ / ثانيا / (د) من قانون التعديل الثاني رقم (١٠٦) لسنة ۱۹۸۹ لقانون مجلس شوری الدولة
٣- أنظر القرار التمييزي في الدعوى رقم ( ٦٤٠ ) / ب / ١٩٥١ في ١ / ٥ / ١٩٥١. عبد الرحمن علام مجموعة المبادئ القضائية، ۱۹٥٧ ، ص ۲۹۱، والقرار التمييزي في الدعوى رقم (۷۰۲) / ح / ٩٥٣ في ١١ / ٤ / ١٩٥٤ ، المصدر السابق، ص ۲۹۱ : والقرار التمييزي في الدعوى رقم (٦٣٨١) / ٩٥٧ في / ۱۰ / ۱۹۱۷ ، سلمان بيات القضاء المدني العراقي (الجزء الأول)، ١٩٦٢ ، ص ٢٦٤ .
٤- قرار محكمة التمييز في الدعوى رقم ( ٤٣٠ ) / ح / ٩٥٤ في ١٣ / ٣ / ١٩٥٤؛ عبد الرحمن علام المصدر السابق، ص ۲۹۰. وفي قرار آخر ذهبت محكمة التمييز إلى أن (( القرار الصادر من السلطة الإدارية لا يكون محلا لتفحص القضاء إلا إذا سبب أضرارا للغير بالمخالفة للقوانين )) . الدعوى رقم ( ٧٤٤) / ت / ٩٦٨ في ١٥ / ١٠ / ١٩٦٨ :
٥- د. عباس الحسني وكامل السامرائي، الفقه الجنائي في قرارات محكمة التمييز المجلد الرابع، ١٩٦٩ ، ص ٥١٠
٦-أنظر قرار محكمة التمييز في الدعوى رقم (۷۳) / استئنافية / ١٩٦٩ في ١١ / ١٠ / ١٩٦٩، قضاء محكمة التمييز، المجلد السادس، ۱۹۷۲ ، ص ١٧٥ - ١٧٦ .
٧- أنظر المادة ( ٧ / ثانيا / د) من قانون التعديل الثاني رقم (١٠٦) لسنة ۱۹۸۹ لقانون مجلس شوری الدولة.
٨- أنظر القرار التمييزي في الدعوى رقم ( ٦٤٠ ) / ب / ١٩٥١ في ١ / ٥ / ١٩٥١. عبد الرحمن علام مجموعة المبادئ القضائية، ۱۹۵۷ ، ص ۲۹۱ ؛ والقرار التمييزي في الدعوى رقم (۷۰۲) / ح / ٩٥٣ في ١١ / ٤ / ١٩٥٤ ، المصدر السابق، ص ۲۹۱ ؛ والقرار التمييزي في الدعوى رقم (٦٣٨١) / ٩٥٧ في / ۱۰ / ۱۹۱۷ ، سلمان بيات القضاء المدني العراقي (الجزء الأول)، ١٩٦٢ ، ص ٢٦٤ .
٩- قرار محكمة التمييز في الدعوى رقم ( ٤٣٠ ) / ح / ٩٥٤ في ١٣ / ٣ / ١٩٥٤؛ عبد الرحمن علام المصدر السابق، ص ۲۹۰. وفي قرار آخر ذهبت محكمة التمييز إلى أن (( القرار الصادر من السلطة الإدارية لا يكون محلا لتفحص القضاء إلا إذا سبب أضرارا للغير بالمخالفة للقوانين )) . الدعوى رقم ( ٧٤٤) / ت / ٩٦٨ في ١٥ / ١٠ / ١٩٦٨ : د. عباس الحسني وكامل السامرائي، الفقه الجنائي في قرارات محكمة التمييز المجلد الرابع، ١٩٦٩ ، ص ۵۱۰