في العشرين من مايو ٢٠٢٤ قدم السيد كريم خان رئيس مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الى الدائرة التمهيدية في المحكمة طلبا لاصدار اوامر بالقاء القبض على خمس اشخاص ثلاث منهم فلسطينيين هم يحيى السنوار و محمد دياب إبراهيم المصري الشهير بضيف و اسماعيل هنية واثنين إسرائيليين هما بنيامين ميلكوفسكي ( الاسم البولندي لبنيامين نتنياهو ) و يوآف غالانت . لقا هذا الطلب ترحيبا شديدا من المجتمع القانوني للوقوف في وجه الجرائم التي تحصل في فلسطين منذ تسعة أشهر .
لكن عند قراءة الطلب المقدم نرى متأسفين أن الطلب ينقصه عناصر قانونية جوهرية نابعة من التكييفات القانونية الاولية الخاطئة بالاضافة الى كون الطلب يمثل في جوهره بيانا سياسيا للدفاع عن المحكمة أكثر من كونه قانونيا . ونحاول هنا النظر في هذه التكييفات وسبب خطأها . لذلك علينا تحليل الطلب الذي قدمه المدعي العام وقيمته , وتحديد الأسباب التي نعده لها سياسيا أكثر من قانونيا .
طلب إصدار أمر الاعتقال
إصدار أوامر الاعتقال من اختصاص الدائرة التمهيدية في المحكمة ( دائرة ما قبل المحاكمة ) وبالاضافة للمدعي العام , للدول و مجلس الامن في الامم المتحدة تقديم طلبات مشابهة . ومن أهم المبادئ التي تعمل بها المحكمة هو مبدأ التكامل .
ويعني مبدأ التكامل أن المحكمة مكملة للاختصاصات المحلية فهي لا تصدر اوامر الحضور او القاء القبض الا على الاشخاص الذين يثبت للدائرة التمهيدية ان الدولة او الدول التي لها الاختصاص القضائي غير قادرة أو غير راغبة في التحقيق أو المحاكمة الجدية العادلة للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة ( الابادة الجماعية , الجرائم ضد الانسانية , جرائم الحرب , العدوان ) . وهكذا على اي طرف ان قدم طلبا لاصدار أوامر اعتقال أن يبين فيه توفر الشروط اعلاه . ومن ثم لم يتم من قبل محاكمة الجنود او المدنيين المتورطين في الجرائم امام المحكمة الجنائية الدولية على اعتبار أن الدولة التي لها الاختصاص القضائي ستمارسه عليهم .
وتبت الدائرة التمهيدية بشكل أولي في جلسة يحضر فيها المدعي العام والمتهم في توافر الدلائل التي تقود للاعتقاد بصحة الاتهامات ولها الغاء بعضها وإضافة البعض الآخر وتعديل المقدم منها تمهيدا للمحاكمة . لم تصدر الدائرة التمهيدية أوامر الاعتقال حتى اليوم الخامس من يوليو وما زلنا ننتظرها .
وأما الطلب المقدم من المدعي فقد انقسم الى قسمين , القسم الأول يطلب فيه إلقاء القبض على زعماء حركة حماس ويتهمهم بالاتي :
الإبادة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ب) من نظام روما الأساسي؛
والقتل العمد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (أ)، وباعتباره جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)؛
وأخذ الرهائن باعتباره جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (3)؛
والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ج)، وباعتباره أيضا جريمة حرب عملا بالمادة 8 (2) (هـ) (6) في سياق الأَسر؛
والتعذيب باعتباره جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (و)، وباعتباره أيضا جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)، في سياق الأَسر؛
وأفعال لاإنسانية أخرى باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ك)، في سياق الأَسر؛
والمعاملة القاسية باعتبارها جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)، في سياق الأسر؛
والاعتداء على كرامة الشخص باعتباره جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (2)، في سياق الأَسر.
والقسم الثاني مماثل بالنسبة للمتهمين الاسرائيليين مع اختلاف في الجرائم المتهمين بها :
تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (25) من نظام روما الأساسي؛
وتعمد إحداث معاناة شديدة، أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة بما يخالف المادة 8 (2) (أ) (3) أو المعاملة القاسية باعتبارها جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)؛
والقتل العمد بما يخالف المادة 8 (2) (أ) (1)، أو القتل باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)؛
وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (1)، أو المادة 8 (2) (ه) (1)؛
والإبادة و/أو القتل العمد بما يخالف المادتين 7 (1) (ب) و7 (1) (أ)، بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع، باعتباره جريمة ضد الإنسانية؛
والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ح)؛
وأفعال لاإنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ك).
ومن خلال قراءة باقي الطلب نرى أنه لم يصغ صياغة قانونية بحتة . فالطلب صيغ - في رأيي - من الناحية الشكلية بفكر متيقن , حيث بدأ بالفلسطينيين اولا , كما انهم ثلاثة مقابل اثنين من الاسرائيليين . كما أن الطلب لم يتضمن أسماء بارزة في الجرائم التي ارتكبت في الجانب الاسرائيلي مثل بيني غانتس او بن غفير . مع أن مبدأ التكامل يبين بشكل واضح للمدعي العام اسبابا كثيرة لعدم محاكمتهم في محاكم اسرائيلية . ونفس الكلام ينطبق على الإسرائيليين الذين يمنعون دخول المواد الاساسية للمدنيين والمدنيين الذين يمشون في مسيرات للترهيب بالقتل والتعذيب تجاه الفلسطينيين قبل السابع من اكتوبر , فهؤلاء لم ولن تحاسبهم محاكم إسرائيلية فلم لم يكونوا ضمن هذه القائمة وهم يرتكبون جرائم تدخل بوضوح في اختصاص المحكمة .
ومحل النقاش هنا هي التهم الموجهة ضد المتهمين الفلسطينيين . أما التهم الموجهة ضد نتنياهو و غالانت بالرغم من انها تهم جدية وهنالك عشرات الدلائل التي تدعم كل اتهام الا أنها قاصرة بشكل كبير , في الواقع بعد دراسة نظام روما الذي يمثل في معظم أجزاءه الموضوعية تقييدا للعرف الدولي في ما يتعلق بمحاسبة الجرائم الدولية , نجد - وبدون مبالغة - أن جميع الجرائم التي نص عليها قابلة لأن تكون أساس اتهام للاسرائيليين . ولذلك أرى أن نفرد لهذا الموضوع دراسة مستقلة تتناول الجرائم بأدلتها .
وفي بيان تقديم الطلب يقول السيد كريم خان الاتي ’ وكما أكدتُ مرارا في بياناتي العلنية كذلك، إن الذين لا ينصاعون للقانون ينبغي ألا يضجوا بعدئذ بالشكوى عندما يتخذ مكتبي إجراءات. وقد آن الأوان لذلك.’ ان هذا السطر يجيب بالنسبة لي على اي استغراب من طبيعة الاتهامات او الطلبات التي قدمها المدعي العام , فعندما تداولت اشاعات في بداية شهر مايو عن احتمالية تقديم المدعي العام طلب القاء قبض على مسوؤلين اسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الوزراء عقدت في اسرائيل اجتماعات عاجلة بهذا الشأن وهذا ما تناقلته وسائل اعلام اسرائيلية . وبعد اعلان المدعي العام نيته تقديم الطلب وجه له تهديدات لا من اسرائيل بل من الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المحكمة وعلى جهاز الادعاء العام فيها .
واثناء تناقل هذه الاخبار لم تتناول المعلومات وجود اي من قادة حماس في قائمة الاتهام . وهو ما يثير الشك حول امكانية ان تكون هذه الاتهامات مجرد حاجز دبلوماسي تضمن للمدعي العام وللمحكمة صورة الموضوعية الدولية . حتى لو كانت هذه الموضوعية ظالمة تجاه الفلسطينيين . لكن ما يواجه هذا الشك في المقابل ويجعل من هذه الاتهامات جدية وبالتالي مخيبة للامال هو المواقف المشهودة للسيد كريم خان , حيث رفضت ثلاث مؤسسات حقوقية في فلسطين لقاءه في الثاني من ديسمبر ٢٠٢٣ . وذلك بعد دعوتهم للقاءه بعد ان تلقى المدعي العام بدوره دعوة من عوائل الاسرى الاسرائيليين والتقى بهم , وبينت هذه المؤسسات الثلاث ان المدعي العام قد قبل المجيء بعد الدعوة من الجانب الاسرائيلي بالرغم من محاولاتهم ومحاولات الفلسطينيين الى مقابلته وايصال صوتهم الى المحكمة الجنائية دون جدوى .
الاتهامات الموجهة ليحيى السنوار وضيف واسماعيل هنية
يقوم القانون الجنائي الدولي الذي بنيت على اساسه هذه الاتهامات على ثلاث قوانين . القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان ومبادئ القانون الجنائي الوطني المشتركة بين دول العالم . وعليه أن تقييم هذه التهم يقوم بشكل رئيسي على تكييفها في ظل مفاهيم هذه القوانين , والمفاهيم ذات الصلة بهذه القضية هي كالاتي :
النزاع المسلح : النزاع المسلح هو استخدام القوة العسكرية لدرجة كبيرة من العنف بين جانبين يتمتعان بالتنظيم الكافي . والنزاع المسلح يكون دوليا اي بين دولتين او غير دولي اي بين دولة وجماعة مسلحة أو جماعتين مسلحتين فيما بينهما .
ولا شك بأن شرطي القوة المسلحة و التنظيم يتوافران في هذا النزاع فهو إذا نزاع مسلح . أما عن نوعه فهو نزاع مسلح غير دولي . ذلك لأن حركات التحرير الوطنية لا تمثل دولتها وإن كانت تحارب لتحريرها لأن التمثيل الدولي هو تمثيل سياسي حصرا .
ان محل الخلاف والنقطة الفاصلة التي تبني او تهدم كل الاتهامات اعلاه هو تاريخ بدء هذا النزاع . بالفعل ان الطلب الذي قدمه المدعي العام يفترض أن النزاع بدأ في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وهو افتراض لا يقترب من الصحة . انه نتاج أحد استراتيجيات الحوار الصهيوني القديمة وهي معاداة التاريخ من خلال إنكاره . لذا علينا ان ننظر الى هذه الحرب كما هي وكما يجب , من عام ١٩٤٨, وان كان الكثير من مفكري الغرب يرى ان إسرائيل صارت امرا واقعا على الفلسطينيين والعرب تقبله والمضي قدما , فالواقع يناقض التنظير ويفرض انه قبل ان توجد حماس بثلاثة عقود لم يتوقف احتلال اسرائيل او مقاومة الفلسطينيين حتى اليوم . ومن ثم لا يمكننا المضي في أوصاف قانونية بعيدة عن الواقع .
الفئات المحمية : إن هدف القانون الدولي الانساني حماية المدنيين غير المشاركين في الأعمال العدائية خلال النزاعات المسلحة . من ثم أن القانون الدولي الإنساني يضع قواعد تحمي فئات معينة اثناءها . وهو بهذه القاعدة يمثل العنصر الأول من التجريم حيث بمجرد أن يعتبر القانون الدولي العام إن انتهاك حكم معين من أحكام القانون الدولي الإنساني يرتب مسؤولية . فأن القانون الدولي الجنائي يكون قد استوفى أركان التجريم . وعليه من الثابت ان استهداف المدنيين أو استعمالهم بأي وسيلة في النزاع يقيم المسؤولية الدولية والجنائية .
وهذا هو محور الاتهامات ضد قادة حركة حماس , هو هجومهم على مدنيين في حفل غنائي في السابع من أكتوبر . ومن ثم ان الاسرائيليين الذين اخذتهم حماس رهائن وليسوا اسرى , فأخذ الرهائن جريمة حرب على عكس الاسرى ( لان الاسرى هم الجنود الأعداء الذين ألقي القبض عليهم في المعركة ) .
لذا إن الفئات المحمية في القانون الدولي الإنساني والتي يعتبر الاعتداء عليها جرائم حرب هم الجرحى والمرضى والمدنيين تحت سلطة الاحتلال والأسرى وضحايا الحوادث في المياه والأطقم الطبية والدينية . وتشترك هذه الفئات جميعا بشرط جوهري ومن ثم يخرج اي شخص من نطاق الحماية عند مخالفته , هو عدم المشاركة في الأعمال العدائية .
فأن هاجم المدني مثلا جنديا عدو في النزاع يصبح هدفا عسكريا مشروعا .
وببساطة إذا ما نظرنا الى هذا النزاع في إطاره الواقعي الذي يفرض علينا أن نبصر أن بدايته في عام ١٩٤٨ . كيف لنا ان نرى ان المدنيين الاسرائيليين غير مشاركين في الأعمال العدائية !.
فأن كان هذا الاسرائيلي يقف على حدود الضفة الغربية أو أنه في يافا ( تل ابيب ) فهو على أرض يشارك بدور فاعل وواعي باحتلالها , والاحتلال عمل عدائي , ولاي منظمة دولية أو دولة أن تنكر هذا او تعتبر اسرائيل دولة على أي حال . ولكن تطبيق القانون أمر علمي موضوعي لا يقبل آراء شخصية .
وعليه ان الاسرائيليين البالغين جميعا يشاركون في الاعمال العدائية ضد الفلسطينيين . ولا يمكن اعتبار أسرهم اخذا للرهائن . ولطالما كان احتلال إسرائيل لفلسطين عن طريق المستوطنين المدنيين العنيفين , حيث تأتي أفواج من المتعصبين الذين يهاجمون الفلسطينيين في منازلهم ويطردونهم منها بحماية القوات الاسرائيلية . وهذا الاسلوب نابع من استراتيجية اسرائيل في الاستيطان والتي استفادت في تطبيقها من خلال موقفها الدولي من هجمات حركات التحرير على المدنيين .
وهنا يجب أن نبين هذا الموقف الدولي الذي عزز من احتلال اسرائيل ورسم شكله . حيث ثار خلاف دولي في هذا الموضوع طرحت فيه الدول التي عانت من الاستعمار أن هجمات حركات التحرير الوطنية على سلطة الاحتلال تكون مشروعة حتى لو استهدفت مدنيين وبالتالي تبقى هجماتهم مشروعة . وقد يبدو هذا الموقف متطرفا إلا أن غالبية الدول قد اختارت أن الهجمات تكون مشروعة طالما أنها لا تستهدف المدنيين وفي مقدمة هذه الدول كانت اسرائيل .
ومن ثم يتبين لنا كيف أن الموقف المعتدل ليس إلا وسيلة للاستعمار . فطالما أن إسرائيل تدفع المدنيين على الحدود الفلسطينية وتطردهم من منازلهم من خلال المدنيين فهم درع قانوني يعطيها حجة للرد على أي هجوم بالوسائل العنيفة . وعليه كيف يمكن ان نعتبر الاسرائيليين مدنيين طالما أنهم يشاركون في الاحتلال .
وعليه ان تهمة اخذ الرهائن ليس لها اساس قانوني فهؤلاء اسرى في نزاع مسلح لانهم يشاركون في الاعمال العدائية وتمت معاملتهم على هذا الاساس - بشكل افضل مما يقرره القانون الدولي الانساني - .
فيما يتعلق بالجرائم ضد الانسانية , فإن أبرز ما جاء فيها هو العنف الجنسي المتمثل بالاغتصاب وجريمة التعذيب وجريمة المعاملة القاسية .
لاشك أن النظر في مثل هذه الجرائم تتطلب تحقيق كثيف , وان مكتب المدعي العام رغم امتلاكه الكفاءات التي تستطيع الوصول الى الحقيقة , والتي اثق فيها شخصيا . إلا أننا نستغرب من عدم ذكر هذه الحوادث مطلقا خلال فترة النزاع التي طالت ٩ اشهر . فعلا لقد ادعى الجانب الاسرائيلي شتى الادعاءات , لقد ادعى قتل الالاف و اغتصاب العشرات من النساء و ذبح ٤٠ طفلا والقاء غيرهم في فرن .
إن ما يؤلمني عند قراءة هذه القصص هي انها حقيقية . نعم لقد قطعت رؤوس الأطفال و القي اطفال في الفرن و قتل الآلاف في يوم واحد . هذا كله حدث في مجزرة خان يونس عام ١٩٤٨ . وهو يحدث بشكل مستمر حتى يومنا هذا . انني انصدم كل مرة اتأكد من صحة المقولة - ان كل اتهام من صهيوني اعتراف - قد يتساءل المرء , كيف يمكن لإنسان أن يقوم بمثل هذا ؟
والحقيقة انه على عكس الادعاءات الصهيونية ان الدلائل موجودة للعيان . لقد صورت كل جريمة حتى بعد منع اسرائيل لاي تحقيق او صحفي وبعد قتلها اكثر من ١٠٠ صحفي . ولم تقدم اسرائيل دليلا واحدا على ادعاءاتها وتمنع اي تحقيق مستقل , كما ان بياناتها الرسمية قالت في اكتوبر ٢٠٢٣ ان ضحايا السابع من اكتوبر كانوا اكثر من ٢٤٠٠ ضحية وبعدها تناقص العدد في تصريح رسمي اخر ليصبح ٢٠٠٠ ثم في اخر ليصبح ١٤٠٠ ثم في اخر ليصبح ١١٠٠ , وهذا كله بدون ان يتم تحقيق محايد من جهة مستقلة , فكيف يمكن ان تثق المحكمة او المدعي العام بمثل هذه التصريحات . وان دفاعها الرئيسي هو انها حكومة ديموقراطية , وهي مسألة لا علاقة لها بالمصداقية , فالحكومة الديموقراطية ليست بأي حال محصنة من المسؤولية بل على العكس ان ديموقراطيتها تجبرها على ان تكون محلا للمسؤولية اكثر من غيرها .
ملخص القول اننا لم نرى أي دليل قدمته اسرائيل للجرائم التي تدعيها وتمنع أي تحقيق في هذا الشأن , وإن كان أي منها حقيقيا لاستخدمته باستمرار لتبرير عنفها كما تفعل مع هجوم السابع من أكتوبر . وخلال المقابلات التي أجريت مع الاسرى المحررين في صفقة التبادل , افادوا ان حركة حماس عاملت الأسرى بما يفوق ما يفرضه القانون الدولي الإنساني . ولقد منعوا من الظهور علنا مرة اخرى .
وماذا عن اسماعيل هنية ؟ وهو ممثل سياسي يقيم خارج فلسطين وليس له سلطة الأمر على الجناح العسكري لحماس . فكيف يمكن أن ينخرط ماديا أو معنويا في الجرائم المتهم بها ؟
و استغرب من تصريح المدعي العام الذي ذكر فيه أنه يملك اسبابا جدية للاعتقاد بوجود جرائم ارتكبتها حركة حماس من خلال تحقيقات مكتبه . فهل أن مكتب المدعي العام يملك القدرات التحقيقية الكفيلة لتجاوز المنع الذي فرضته اسرائيل ؟ وهل لديه القدرات التحقيقية التي تضطلع بإيجاد الدلائل اكثر من الحكومة الاسرائيلية الموجودة على أرض النزاع ؟
خاتمة
قد يظن القارئ أنني من خلال ما كتبته أقف ضد المحكمة الجنائية الدولية او المدعي العام . والحقيقة أن هذا لا يمكن أن يكون بعد ابعد من الصحة . إن نظام روما في نظري ورغم قيود السيادة التي كثيرا ما تعطله هو اكثر وثيقة دولية تطورا . وهي تمثل في محكمتها املا للشعوب في تحقيق العدالة والتحرر من الظلم . وعلى عكس منظمة الأمم المتحدة ليست منظمة سياسية فهي لا تعير اهتماما لمصلحة دولة او اقليم طالما أن هذه المصلحة تعيق العدالة التي هي شعور يحتاجه الإنسان كالطعام والشراب ليعيش وبدونه لن نكون أناسا حقا . ان الانتقاد سبيل للاصلاح وليس العقاب , وعلينا التمسك بكل ما لدينا بهذه المؤسسة الجليلة لنضمن عملها وتحررها من كل الضغوطات السياسية التي لم تنفك عنها منذ تأسيسها . لقد خاب أمل الفلسطينيين ونحن كقانونيين , لم يتأخر طلب الاعتقال سبعة اشهر وحسب بل اتخذ حين جاء موقفا غير محايد و موقفا رضخ فيه الى ضغط الدول , التي تعير لمصالح حكامها الاهتمام الأول قبل حياة البشر .
لقد قال السيد خان في ختام بيانه ’ولنكن واضحين اليوم بشأن مسألة جوهرية: لو لم نُظهر استعدادنا لتطبيق القانون على قدم المساواة، ولو بدا أنه يُطبق تطبيقا انتقائيا، فإننا سنتيح الظروف المواتية لانهياره. وسنحل بذلك ما بقي من الروابط التي تجمعنا، والصلات التي تثبت الأواصر بين المجتمعات المحلية والأفراد، وشبكة الأمان التي يتطلع إليها كل المجني عليهم في أوقات المعاناة. إن هذه لهي المخاطرة الحقيقية التي نواجهها في هذه اللحظة.’ والغريب أن السيد المدعي العام لم يلاحظ أن القانون الدولي بالذات قد طبق بأشد الانتقائية منذ عام ١٩٤٨ حيث قررت الامم المتحدة قرار إنهاء الاستعمار ومن ثم قررت تقسيم فلسطين لتعطيها للمستعمرين . ان القانون قد طبق بانتقائية لان الذي يحمل عصا القانون هو الاقوى وحلت الأسس التي تربط المجتمعات الانسانية منذ عدة عقود بالفعل . وحين أسست المحكمة الجنائية الدولية كانت تحديا جليا في وجه الاقوى ومحاولة حقيقية لتحقيق ترابط بين البشر في وجه الظلم من خلال تأكيد ان لا احد سيفر من العقاب . ولكن ها نحن هنا لا يمكننا محاسبة المجرم دون أن نلقي بالاتهام على الضحية .
واخيرا قد يرى هذا المقال انه دفاع عن السادة يحيى السنوار وضيف واسماعيل هنية و ولكن هذا ليس صحيحا ايضا . ان هؤلاء الاشخاص لهم صفات شخصية لست على اطلاع كاف عليها ومن ثم لا اجد نفسي مؤهلا للدفاع عنهم . ولكن صفاتهم العامة انهم ممثلي المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار وانا على اطلاع كافي بعمل المقاومة وتاريخها وانا لا اشير هنا الى حماس فحماس هي الصورة المعاصرة للمقاومة التي لم تنقطع منذ ٧٥ عاما , والتي مثلتها خير تمثيل منذ تأسيسها عندما تشكلت لمحاربة تجار المخدرات المرسلين من اسرائيل لاغراق غزة بالمخدرات . ولأن واجب اي انسان ان يتصدى بما لديه في وجه الظلم بكل اشكاله . والا كانت نهايتنا كما كان نهاية من سبقنا , حياة ذليلة وتاريخا ملعونا .