الأمن القضائي والأمن القانوني ومدى العلاقة بينهما


بقلم : مريم حسين رسول

يعني مصطلح الأمن لغتاً كل ما هو ضد الخوف فيقال هذا الشخص يشعر بالأمن أي انه مطمئن وواثق بأن الخطر لا يحيط به , وللامن جوانب مختلفة يعد توافرها امر مهم للغاية فمن أبسط حقوق الإنسان أن يعيش في بيئة آمنة وأن يتوفر له الأمن الصحي والاجتماعي وإلى آخره من جوانب الأمن المختلفة. واليوم سنتحدث عن نموذجين لتلك الجوانب وهي كل من الأمن القانوني والأمن القضائي , والذي يعد توفرهما احد المقومات الأساسية لبناء دولة القانون فلكي نستطيع إطلاق وصف دولة القانون على دولة ما لابد من أن تكون تشريعاتها ثابتة ومستقرة , وفيها جميع الضمانات التي تحمي الفرد وتضمن تطبيق القانون بشكله السليم , وكذلك يجب أن يكون قضائها قضاءً عادلا ويثق به الأفراد وتكون قراراته في المنازعات صحيحة ولا يشوبها أي انحياز لأي طرف من أطراف المنازعة . فهذه المفاهيم بمجموعها تشكل لنا ما يصطلح تسميته بمبدأ الأمن القضائي والأمن القانوني.

‏وسنتحدث هنا عن هذا الموضوع بشكل ثلاث عناوين نبين في الأول مفهوم مبدأ الأمن القانوني ثم نبين في الثاني مفهوم مبدأ الأمن القضائي ونوضح أخيرا طبيعة العلاقة التي تربط هذين المبدأين ببعضهما البعض. ..



مفهوم مبدأ الأمن القانوني


يوجد عدة تعريفات لمبدأ الأمن القانوني اذ لم يتفق الفقهاء على وضع تعريف موحد له , فمن الفقهاء من عرفه على أنه ثبات القاعدة القانونية واستقرارها . حيث يشكل هذا العنوان بالنسبة لهؤلاء الفقهاء أساس مفهوم مبدأ الأمن القانوني , بينما عرفه فقهاء آخرون بأنه وضوح القاعدة القانونية وسهولتها وعدم غموضها.

ويرى أصحاب الرأي الأول أن التعريف الذي جاءوا به هو الأفضل , فهم لا يختلفون مع أصحاب الرأي الثاني فيما يتعلق بوضوح القاعدة القانونية وعدم غموضها إذ يعتبرون من الواجب توافر هذا المبدأ لتحقيق الأمن القانوني , إلا أنهم يرون أن أستقرار القاعدة القانونية مصطلح يضم في طياته فكرة وضوح القاعدة وينتقدون أصحاب الرأي الثاني بأن تعريفهم قاصر حيث يرون أن مصطلح الأستقرار هو مصطلح أوسع و اوضوح ويشمله. وعلى أي حال ولكي نتوصل إلى نتيجة أكثر دقة يعد الجمع بين التعريفين هو الأفضل للوصول إلى مفهوم شبه متكامل لمبدأ الأمن القانوني.


وقد يتسائل البعض عن القيمة القانونية لهذا المبدأ ما إذا كان يعد مبدأ  دستورياً ام لا؟ يختلف هذا الأمر من دولة إلى أخرى , فكما نعلم أن اضفاء الصفة الدستورية على مبدأ ما يستوجب ذكره وبشكل صريح في صلب النصوص الدستورية , وهذا الأمر , أي النص عليه في دستور الدولة , قد تم بالفعل في أغلب الدول الأوروبية حيث يعد هذا المبدأ في تلك الدول مبدأ دستورياًأما لقيمة هذا المبدأ بالنسبة لأغلب الدول العربية كما في الجزائر  والعراق والإمارات العربية المتحدة , فقد جاء في دساتيرها ذكر العديد من مقومات مبدأ الأمن القانوني إلا أن نصوص تلك الدساتير ومنها دستورنا العراقي النافذ لسنة 2005 جاءت خالية من ذكر المبدأ بشكل صريح وعليه لا يعد هذا المبدأ بالنسبة لتلك الدول مبدأ دستورياً.

 ومن الجدير ذكره بأن هناك العديد من المتطلبات والخصائص التي يجب أن تتحلى بها القاعدة القانونية , والتي بمجملها تحقق لنا مبدأ الأمن القانوني ويمكن أن نتحدث عن تلك المتطلبات بشكل نقاط وكالاتي:-


١- عدم رجعية القواعد القانونية : تعد من أهم مقومات مبدأ الأمن القانوني , ونعني بعدم رجعية القانون عدم سريانه على الوقائع التي تسبق نفاذه فهذا الأمر يحقق هدف الأمن القانوني المتمثل بالاستقرار حيث يطمئن الجمهور بأن وضعهم القانوني مستقر ولن يتغير فجأة بتغير القانون.


٢- تفادي التعديلات المتكررة والغير مبررة للقاعدة القانونية : فكما سبق وان ذكرنا بأن الأمن القانوني يهدف إلى استقرار الأوضاع القانونية , وهذا يتطلب ثبات القاعدة القانونية وعدم تعديلها بدون سبب مقنع , ولكي نحقق ذلك فيجب أن لا تشرع أي قاعدة قانونية إلا بعد أن تدرس بشكل جيد من كافة النواحي  لكي لا يضطر المشرع لإلحاقها بالتعديلات المتكررة.


٣- وضوح القاعدة القانونية وعدم غموضها : يعد أساس تحقيق مبدأ الأمن القانوني , اذ يجب أن تكون القاعدة القانونية مفهومة للجمهور وللقائمين بتطبيقها لكي يعلم كل شخص ما له وما عليه بحيث يكون مطمئنا في حال إقدامه على أي تصرف قانوني كونه يعلم ما سيترتب عليه . كما أن وضوح القاعدة القانونية ستضيق من فكرة الاجتهادات القضائية التي قد تؤثر بطريقة او ما على مبدأ الأمن القانوني كون هذه الاجتهادات قد تؤثر على فكرة استقرار الأوضاع القانونية .


٤- عدم تنفيذ اي قانون إلا بعد مرور فترة معقولة على نشره : لكي يتسنى لجميع الأفراد العلم به وترتيب أوضعهم على أساسه .


٥- ان تكون القاعدة القانونية عامة ومجردة : أي أن تخاطب تلك القاعدة الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم وأن تطبق على المخاطبين بها بشكل متساوي بغض النظر عن المراكز الخاصة بهم ما داموا جميعاً مكلفين  بموجب النص القانوني.


٦- الانسجام بين القواعد القانونية والابتعاد عن التعارض : امر مهم لضمان جودة التشريعات بحيث لا يضطر الأفراد للتشتت بين القوانين المتعارضة , اذ ان وحدة التشريعات وبدون شك تحقق لنا الامن القانوني.

 

كما ولاجل زيادة ثقة الجمهور بالقانون , فعلى الدولة أن تضمن جميع الحقوق والالتزامات المترتبة بموجب القوانين بحيث يشعر الأفراد بأن القانون يطبق على الجميع وأن كل شخص سوف يأخذ حقه المكفول قانوناً كما ويفضل أن يُنص على هذا المبدأ في الدستور لاضفاء القيمة الدستورية عليه.



مفهوم مبدأ الأمن القضائي


إن لمبدأ الأمن القضائي مفهومين أحدهما واسع والآخر ضيق , فبالنسبة للأول فهو يعكس ثقة الجمهور بالمحاكم والقضاء بحيث يكون الجمهور على يقين بأن القضاء عند فصله في المنازعات سيكون حيادياً ويحكم فيها بانصاف بما يحقق العدل , وبعبارة أخرى فإن هذا المفهوم للمبدأ يتحقق عند توفير جميع المتطلبات التي تعزز ثقة الافراد بالمؤسسة القضائية , والتي ستزداد إذا كانت الأحكام الصادرة من المحاكم أحكام عادلة صادرة وفق الإجراءات التي يتطلبها القانون وعندما تتطابق الحقيقة القضائية المتمثلة بالحكم القضائي مع الحقيقة الواقعية المتمثلة بالواقعة المعروضة أمام القضاء . أما بالنسبة للمفهوم الثاني أي المفهوم الضيق , فيعني تنسيق واستقرار  الاجتهادات والأحكام القضائية الصادرة من المحاكم العليا .

 وكما أن لمبدأ الأمن القانوني متطلبات لتحقيقه , فإن الأمر نفسه ينطبق على مبدأ الأمن القضائي وهذه المتطلبات يمكن إيجازها بالنقاط الآتية:-


١- الاستقلال القضائي بمدلوليه الشخصي والموضوعي : أي أن يكون القضاة انفسهم مستقلون وغير تابعين لأي جهة , وكذلك الحال بالنسبة للسلطة القضائية إذ يجب أن تكون مستقلة عن باقي السلطات لتلافي اي انحراف في الأحكام التي تصدرها و لتحقيق ذلك يجب على الدولة تبني  نظرية الفصل بين السلطات تعزيزاً لهذا الاستقلال.


٢- المساواة بين الخصوم في المنازعة المعروضة أمام القضاء : إذ لا يجوز التمييز بين المدعي والمدعى عليه فكما أن حق الادعاء حق مكفول قانوناً فحق الدفاع هو الأخر حق مكفول بموجب القانون.


٣- تسبيب الأحكام القضائية : حيث أن ذكر القاضي للاسباب التي تكمن وراء إصداره لهذا الحكم أمر يبين للجمهور الحقيقة الكامنة وراء هذا الحكم مما يعزز ثقتهم بالأحكام القضائية.


٤- السماح بتوجيه الطعون للأحكام الصادرة من المحاكم : فكما نعلم أن القاضي هو بشر وهو غير معصوم عن الخطأ لذا ولتلافي تلك الأخطاء التي قد تلحق بالحكم القضائي يجب اتاحة الفرصة للطعن فيه من قبل الخصوم.


٥- وضع جميع الضمانات التي تكفل تنفيذ الحكم القضائي الصادر في المنازعة : فإن مجرد إصدار الحكم وإن كان عادلا غير كافي إذا لم يتم تنفيذه فعدم التنفيذ سيجعل الجمهور يشعر بأنه لن يصل لشيء عند التجاءه  للقضاء.


 ولما يكتنفه هذا المبدأ من أهمية وخطورة يفضل ذكره وبشكل مستقل وصريح في النصوص الدستورية لمنح القيمة الدستورية له.


مدى العلاقة بين المبدأين


هناك علاقة تكامل بين مبدأ الأمن القانوني ونظيره القضائي حيث  ان اي خلل في الأمن القانوني سيؤثر سلباً على تحقيق الأمن القضائي والعكس صحيح أي أن أحدهما يكمل الآخر فلا يمكن تحقيق أحد المبدأين دون وجود الآخر فلو افترضنا أن التشريعات مشتته وغير واضحة ولا تتمتع بالجودة التشريعية أي أنها خالية من مقومات الأمن القانوني فذلك سيؤثر على الأمن القضائي   كون الأحكام التي سيصدرها القضاء هي مستمدة من التشريع والتشريع هو اساسا غير متزن فماذا ستكون مصير تلك الأحكام القضائية التي صدرت بالأساس وفقا لذلك التشريع؟ بالتأكيد ستكون تلك الأحكام غير دقيقة نتيجة لعدم دقة التشريع.

ومن ناحية أخرى فان افترضنا بأن القضاء لا يطبق القانون على الأفراد بشكل متساوي بحيث يطبقه على فئة من الناس دون غيرهم فهنا إلى جانب كوننا سنفقد جوهر الأمن القضائي المتمثل بإصدار أحكام حيادية وعادلة انسجاما مع القانون بدون تميز بين شخص وآخر فإننا أيضا سنفقد الأمن القانوني الذي يهدف إلى أن تكون القاعدة القانونية عامة مجردة  اي مطبقة على جميع المكلفين بها وبشكل متساوي.

نستنتج مما تم ذكره أن هذين المبدأين متلازمين يقوي أحدهما الآخر ويعززه فلا امن قضائي بلا أمن قانوني ولا اهمية لأمن قانوني بلا أمن قضائي.







المصادر


١- الأمن القانوني والأمن القضائي علاقة تكامل   لدكتور عبد المجيد الخذاري، فطيمة بن جدو


٢- مبدأ الأمن القانوني ومقومات الجودة التشريعية لكل من الدكتور سعيد بن علي بن حسن، والدكتور رضوان أحمد الحاف 

أحدث أقدم