قبل تطرقنا لِبداية بحثنا، أود أن أشير إن أغلب المعلومات والحقائق التي في أدمغتنا حالياً عن أزمة السودان؛ نعرفها من خلال المواقع التي هي اصلاً غير مُلمة بجميع الحقائق التي من المفترض أن نكشفها عن السودان، بل هي "مبرمجة ادمغتنا" على المسموح لنا أن نعرفه بحسب تقديرهم لعقولنا فقط لا غير؛ لذلك ستلاحظون إن جُل الحقيقة التي نعرفها عن حقيقة وضع السودان الحالي هو فقط اندلاع حرب إبريل في 2023، التي تسببت بالازمة الحالية للسودان وهذا غير دقيق نسبياً.
لان ما وصل اليه السودان اليوم ليس نتيجة الحرب الحالية بل إنه ناتج عن سياسات مدمرة منذ العقود السابقة والأوضاع الراهنة.
لذلك لكي نأُصل المشكلة يجب أن نبحثها من جذورها…
مقدمة لتأصيل المشكلة
بدايةً استقلت السودان عام 1956، وحكمها والنظام السياسي فيها مليئ بالانقلابات السياسية الى الآن ووضعها غير مستقر اقليمياً ودولياً،لذلك فالسودان قبل هذه الازمة كان يواجه ازمة غذائية ومجاعة ،لكن الحرب الحالية جعلتها اقوى ازمة حاليا، وعلى الرغم من ان الحرب الروسية -الأوكرانية لم يواجهو ازمة جوع ، وكذلك فلسطين مع أنهم في حالة حرب، وعلى الرغم من أن جيش الاحتلال الصهيوني يستخدم الجوع كسلاح لتدمير السكان، في فلسطين لدفعهم للنزوح ،لكنها لن تصل ابداً إلى حجم مجزرة الجوع الذي عليها السودان الآن..وهذا يدفعنا للتساؤل هو لماذا السودان وصلت لهذه المرحلة رغم تلك الحروب الانفة الذكر لا يتواجد بها أزمات غذائية؟او بمعنى اخر كيف لبلد مثل السودان يتمتع بأراضي قابلة للزراعة الخصبة يحصل بها مجاعات بسهولة؟
للإجابة على هذا السؤال نستعرض هذه اللمحة التاريخية لسبب الأزمة.
لمحة تاريخية عن أزمة السودان
في عام 1968 تعرضت سواحل مدن أفريقيا إلى موجات جفاف كبيرة، كان ضمنها السودان وفي عام 1973، تسبب هذا الجفاف بحصول مجاعات بدول إفريقيا ،لكن فقط السودان نَجت ولم يحصل لها هذا الجفاف، ليس لانها لم تتاثر بالموجة، بل بسبب شكل ونمط وطبيعة القطاع الزراعي في السودان في حقبة الستينات، أي أنه كان واحد من أكبر الدول المنتجة لمادة القطن؛فهي كانت تسفر كل جهودها من أجل تكبير هذا المحصول في بلادها ،وكانَ المزارعين الصغار يزرعون المحاصيل الغذائية ويخزنوها للطوارئ ،وايضاً من أسباب النجاة هو أن السودان في تلك الحقبة كان يتمتع بقدر من المؤسساتية المستقلة التي تجعلها قادرة على توفير الغذاء، وتصديره الى المحتاجين من الدول.
لكن هذا النظام له ايجابيات وسلبيات فالايجابيات هو أنه يقي السودانيين وخصوصا الريف السوداني من خطر الجوع، والعيب فيه انه مع الوقت، ان تصنيع مثل هذه المنتجات بالطبع يحتاج الى امكانيات وآلات كبيرة من الخارج؛ فبالتالي تصنع في الداخل وتباع بالعملة المحلية ؛لسنا بصدد الدخول بعمق التفاصيل العملية الاقتصادية، لكن للتوضيح ذلك يعني أن سياسة السودان التي تبقيها على قيد الحياة غير متوفرة وغير مدروسة للاسف،لان السودان يمكن أن ينجو من اي مشكلة تلحق به لو قام بتصنيع هذا المواد وصدر الباقي للخارج لتوفير العملة ومنع التضخم في البلد، لكنه ركز على صناعة القطن بشكل كبيرمع انه يعود عليه بعوائد ممتازة، لكن لا يجب ابداً الاعتماد عليه كمصدر للحياة في البلد، لان كما نعلم جيداً ان القطن مرتبط بالأسعار العالمية، وممكن في اي لحظة ان ينهار وينهار معه السودان؛ فهنا تبدأ أزمة السودان الحقيقية من سبعينات القرن الماضي؛حيث تراجعت أسعار القطن بشكل كبير مع ازدياد اعتماد العالم على الألياف الصناعية، وقلة الطلب على القطن عندها فقط انتبه السودان الى خطورة خطة المحصول الواحد على البلد بعد ان كان يواجه ازمة المدفوعات والقروض، وعندها غَير سياسية المحصول الواحد، وبدأ يقلل انتاجه ويصدر الفائض منه. وفي عام 1970-1971 بدأ يغير من سياسته فعلياً فقل إنتاج القطن من (588,000)الف طن إلى (381,000) ألف طن وازدياد إنتاجها للغذاء بشكل أكبر، لكن هذا الوضع لم يُعجب دائني السودان والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ لأنه يراه يجاهد من اجل ان يوفِ ديونه والقروض التي عليه.
ثاني أسباب الازمة ،ألا وهو الرئيس السوداني جعفر النُميري الذي حكم 1969-1985 الذي طور علاقته مع مصر مع توقيعها معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني وأصبح من الموالين لهم ومع ازدياد الديون والقروض والازمة، قام البنك الدولي بقطع تمويل المحاصيل الغذائية في السودان لانه كان يريد أن تتبع سياسة التوازن في زرع محصول القطن والمواد الغذائية واستيراده من الخارج ،ومع كل ما فعلهُ البنك الدولي ،قام ايضاً بقطع التمويل بالرغم من أنه كان هناك اتفاق سابق عام 1978 بين البنك الدولي والسودان لتمويل المحاصيل لكن البنك الدولي أوقف تنفيذه.
وعلى الرغم من الأوضاع الراهنة في الدول العربية آنذاك؛من الحروب الا ان السودان كان المرشح المثالي لسلة غذاء الدول العربية بسبب موقعه وأراضيه الخصبة وغناه؛لكن للأسف السياسة الغاشمة لم تستغل الموارد بشكل صحيح ،عندها في بداية الثمانينات تمت السيطرة على أكبر الأراضي الخصبة في السودان،وتم اقتسامها بين الحكومة واصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الأجانب وتم ابعاد المزارعين السودانيين وتهميشهم وفرض رسوم كبيرة لزراعتهم وحرمانهم من حقوقهم،وأدت مطالب البنك المركزي الى تضخم العملة في البلد وانخفاض قيمتها بشكل مخيف وأصبحت البنوك السودانية فقط لاصحاب رؤوس الاموال الأجانب وغير السودانيين، ونتيجة ذلك فان صغار المزارعين الذين يشكلون الأكثرية في السودان قد سُلبت حقوقهم وقلت قدرتهم في الحصول على الطعام لكن هذه المشكلة يمكن تجنبها لو ان الحكومة السودانية تساعدهم في زراعتهم وتبيعها إياهم بأسعار معقولة او توظفهم براتب معقول.
وفي عام 1984 حدثت ازمة كبيرة (مجاعة)في السودان لم يُكشف عنها الا بعد شهور وأحد أسبابها هو تسلط وتدخل أطراف بالإنتاج الزراعي والسوق الداخلية بشكل يسمح لها بالتلاعب بالأسعار،وعرقلة حصولها من السكان ؛وبسبب ذلك تم نزوح الكثير من السودانيين الى العاصمة "الخرطوم" بحثاً عن الطعام لكن تم طردهم بعيداً عن العاصمة،وهنا بدأت سياسة الولايات المتحدة بالتدخل بالشأن السوداني من أجل إبقاء حكومة النُميري،لكي لا يتحالف مع ليبيا واثيوبيا لكن عام 1985 خرج النميري من الحكم وانتهت المجاعة لكنها رجعت مرة اخرى في جنوب السودان عام 1988 وذهب ضحيتها (250,000)ألف إنسان. وبعد النميري جاء عمر البشير عام 1989 بعد انقلاب عسكري ضد الحكومة السودانية بقيادة صادق مهدي، عندها طبقت الولايات المتحدة المادة 113 من قانون المساعدات الأجنبية الذي يحظر تقديم أي مساعدة لحكومات جاءت عن عن طريق الانقلاب على السلطة الحاكمة.
وفي عام 1991 قام العراق بغزو الكويت واتخذت السودان موقفا يقف بجانب العراق ضد دول الخليج؛ لذلك جميع المساعدات التي كانت تُستحصل من دول الخليج قد أُلغيت وقامت الولايات المتحدة من جانبها بإيقاف إرسال المساعدات عليها بشكل كلي.
وفي عام 1988-1989-1990 كانت السودان تملك فائض كبير من احتياجات البلاد من الغذاء، فالدول الطبيعية عندما يفيض لديها المنتوج تخزنهُ للطوارئ تحسباً لِأي ظرف غير متوقع لسد احتياجها الذاتي، لكن السودان عام 1991 تعرضت لجفاف شديد وحينها كان مِن المفترض عليها ان تستغل الفائض في الأعوام السابقة… لكن المفاجئة ان الفائض غير موجود لان الحكومة السودانية آنذاك بدلاً من ان تخزنه لاحتياجها قامت،بتصديره الى الخارج، بمعنى أكثر من مليون طن من احتياطاته، قد صُدرت للخارج ومع الحرب الأهلية والانقلابات العسكرية والمجاعة ضلت السودان بجميع رؤسائها على ذات السياسية والشخص الذي كان يُملي عليهم ذلك هو البنك الدولي الذي، يعارض فكرة الاحتياطي الغذائي للسودان ويأمرها باستيراد المواد من كبار الدول والمستثمرين الأجانب كالولايات المتحدة بمعنى أكثر دقة (( لماذا الإنتاج الداخلي بل استيراده افضل من صناعته)).
وتعتبر هذه السياسية الاسوء لقيام المجاعة؛ لان المدهش والغريب في الموضوع ان السودان يُصدر للدول مواد غذائية بالرغم من جوعه وافتقاره لأبسط مقومات العيش.
والأغرب من ذلك بكثير أنه في عام 2008 بدأت تتدفق مساعدات كثيرة الى السودان من مواد غذائية واخرى غير غذائية في ذات الوقت الذي يُصدر فيه مواد وحبوب الى الدول الاخرى حتى ان صحيفة نيويورك تايمز أشارت الى ذلك الحادث الغريب بتقرير نشرته في ذات السنة بعبارة (( السودان يعيش على الصدقات ويصدر الغذاء)).
○الصراعات السياسية الحديثة في السودان
في عام 2019 تمت الإطاحة ب(عمر بشير) وتأسيس مجلس السيادة السوداني؛ واُختير عبد الله حمدوك رئيساً للسودان الخامس عشر وبقي حتى عام 2021 لكنه رجع مرة اخرى بعد شهر وانتهى حكمه عام 2022. نعود الى عام 2020-2021 اُقترح الحل لأزمة السودان، بالتطبيع مع الكيان الصهيوني او ما يسمى إسرائيل برعاية الولايات المتحدة ووساطتها، حيث عزم رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، عبد الفتاح البرهان بالدخول الى ((اتفاقيات ابراهم)) لتوطيد العلاقات الاسرائيلية-السودانية ،من الناحية الصحية، التجارية، التعليمية في واشنطن وتبادل السفراء والدبلوماسيين، ولعبت الولايات المتحدة دوراً كبيرا جدا ومهم من أجل إنجاح هذه الاتفاقية؛ من خلال رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات عليها،وتقديم المساعدات المالية. وعلى أي حال تم التوصل الى اتفاق لحل التوترات بين "قوات الدعم السريع" و"الجيش النظامي السوداني" فالاولى هي قوات انبثقت من دارفور وشاركت بالانقلاب على عمر البشير عام 2019 ،للقيام بدولة مدنية في السودان، ودمج القوات النظامية و"قوات الدعم السريع"، لكن قائد"قوات الدعم السريع" أدى الى نشوب توترات من خلال مطالبته بتمديد دمج الجيش،وتطورت هذه التوترات إلى أعمال عدائية في العاصمة وبقية مدن ومحافظات السودان، بين حزب "صادق المهدي" ورئيس المجلس الانتقالي وقوات "الدعم السريع".
نتيجة المفاوضات الإسرائيلية وأهدافها
فشلت اسرائيل في تنمية العلاقات السودانية، بسبب تركيزها على عبد الفتاح البرهان، والضباط الذين تحت اُمرته،وايضاً فشلت فشلاً ذريعاً في إظهار الفوائد المحتملة التي يحققها التطبيع مع الكيان الصهيوني وتوضيحها للسودان والشعب السوداني ،وتلاشت بسرعة محاولة إنشاء علاقات صداقة وتعاون بين الطرفين،ولم تنجح ايضا المساعدات او تجلب فائدة لها لإقناعها بالتطبيع الرسمي، بل ازدادت المظاهرات والمعارضات الواسعة ضد التطبيع بين الساسة السودان، وحيث ان رؤساء السودان ثابتي الموقف مع إسرائيل، لكن هناك بعض التفاوت بينهم من خلال استعراض موقف عمر البشير،الذي اتخذ موقفا معادياً لاسرائيل،وقطع جميع الاتصالات معها، بل اقتربت علاقته مع إيران اكثر ،كما بدأ بتسهيل إرسال شحنات الأسلحة الى"حماس" مما أدى،الى قيام اسرائيل إلى شن غارات على المنشآت السودانية ذات الصلة.على عكس موقف النُميري والصادق مهدي، اللذان كانا لهم اتصالات مع اسرائيل، خلال حرب السودان مع مصر في حقبة "جمال عبد الناصر؛ أما عن بعض أهداف اسرائيل عن اهمية الحصول على الاعتراف من السودان نذكر؛ ان السودان كانت المقر الرئيسي لإجتماع "جامعة الدول العربية" حتى عام 1967 لعدم الاعتراف باسرائيل ومن تلك الأهداف، هو سعي إسرائيل إلى إنشاء خطوط جوية للتحليق في سماء السودان من أجل التوصل السريع وتوطيد العلاقات مع دول امريكا اللاتينية ،بسبب موقع السودان من البحر الاحمر
خلاصة
المسألة أن وضع السودان الحالي؛وتحسينه والتقدم به الى الأمام، مرهون بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وبيع نفسه، ومبادئه، وتاريخه من أجل بعض الإصلاحات في بعض الجوانب الهيكلية بمعنى"يجب أن يساوم السودان على قضيته لينتعش".
وعموماً عندما نسمع ان السودان بلدٌ غنيٌ بالمحاصيل، فإننا يجب أن نتساءل سؤالين مهمين هما هل هذه المحاصيل غذائية أم غير غذائية كالقطن لأننا علمنا كيف يفرق الأمر من خلال التوضيح أعلاه؛ والسؤال الثاني من يملك هذه المحاصيل؟ فبسبب التجار من القطاع الخاص واستيلائهم على هذه المواد تراجعت السودان 100 سنة الى الوراء.
وفي عام 2023 في إبريل اندلعت حرب بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني وكل منهما يحاول اخضاع الآخر حتى ان اخر امل واكثر منطقة مهمة في السودان (الجزيرة) التي 65% من إنتاج القطن والمواد الغذائية في السودان يأتي منها، هَمت هذه القوات بالسيطرة على هذه المنطقة ،ولا هدف لهم هناك سواء تخريب المنطقة والسرقة والاعتداء على السكان واغتصاب الصغار والنساء من اجل دفعهم للنزوح منها.
لذا حتى الحل الوحيد ألا وهو المساعدات الخارجية لها لن تفيد لأن حجم احتياج السودان أكبر بكثير مما يصلها لأنها تشكل أكبر أزمة جوع في العالم.
●السودان حالياً:-
عدد سكانه 45 مليون نسمة.
18 مليون نسمة يعانون من الجوع الشديد
5% ممكن أن يموتوا نهاية السنة بسبب الأزمة والجوع فقط.
30 مليون سوداني ليس لديهم اتصال بالإنترنت مما يجعل من الصعب طلب المساعدة أو اللجوء أو الاتصال باُسرهم.
انخفاض القوة الشرائية للنقود وارتفاع أسعار الوقود ونقص في عمالة البلاد.
بسبب القتال والحرب نحو أكثر من (500،000) الف نازح في المخيمات يعانون من انعدام الغذاء والمجاعة.
ارتفاع عدد النازحين إلى أكثر من 10 ملايين وسط ازياد الحرب وانعدام فرص الحصول على مقومات الحياة فهي لا تقل عن أزمة فلسطين وكما قلنا إن أكبر مجاعة في العالم تواجه السودان حالياً.
والحرب مستمرة…..
المصادر
.Ashraf Ibrahim,sudan’s crisis
.موقع rescue.org for helping sudan
.BBC NEWS about the situation of sudan
.Political Observatoryموقع في
.إيهوب يعاري،تحليل سياسي،بحث منشور